الثورة ـ تحقيق سنان سوادي:
يمثل قطاع النحل ركيزة أساسية في الزراعة المستدامة لما له من دور بيئي واقتصادي مهم في تلقيح المحاصيل، ودعم الإنتاج الريفي، وتمكين الأسر الريفية، وتوفير فرص العمل. ماذا عن واقع إنتاج هذا القطاع في اللاذقية؟ وما التحديات التي يواجهها المربون؟ وما دور الجهات الحكومية المعنية؟ وما رأي أصحاب العلم والاختصاص؟ كل ذلك نتابعه في هذا التحقيق.
غياب الدعم
أمجد الأسعد، نحّالٌ، يعمل في هذا المجال منذ أكثر من 15 عاماً، قال لصحيفة الثورة: تراجع الإنتاج خلال السنوات الأخيرة، وارتفعت التكاليف بشكل كبير، فعملية نقل الخلايا الضرورية لتحسين الإنتاج تكلف نحو مليون ليرة شهرياً، بينما تصل تكلفة العناية بالخلية الواحدة بين 300 و 400 ألف ليرة سنوياً، وأجرة الطبيب البيطري لا تقل عن 500 ألف ليرة. ولفت الأسعد إلى أن رش المبيدات الحشرية في أماكن وضع الخلايا يؤدي إلى نفوق أعداد كبيرة من النحل، علماً أنه يتم إبلاغ مختار القرية ورئيس الوحدة الإرشادية عن أماكن الخلايا قبل وضعها، وفي حال وقوع كوارث طبيعية كالحرائق أو الفيضانات لا يتم التعويض للمربين من قبل الجهات المعنية.
بدوره، النحال مالك قاجو، الذي بدأ عمله في هذا المجال بعشرة خلايا عام 2005، ويملك اليوم 250 خلية، أكد أنه يواجه تراجعاً في الإنتاج تجاوز 40% نتيجة الظروف المناخية السيئة، والجفاف والحرائق، والرعي الجائر الذي أدى إلى تراجع الغطاء النباتي البري، بالإضافة إلى ضعف فعالية الأدوية البيطرية بسبب غياب الرقابة، وانتشار الأدوية المهربة، وتراجع دعم المؤسسات الحكومية، ودور المراكز البحثية، وانخفاض الطلب على منتجات النحل بسبب الظروف الاقتصادية للمواطن، وصعوبة التصدير.
وطالب قاجو بتفعيل دور المؤسسات الحكومية، وإقامة دورات تدريبية علمية وعملية، وتوفير مستلزمات الإنتاج من معدات وأدوية من مصادر موثوقة، واستيراد سلالات محسّنة، وتأمين أسواق داخلية وخارجية لتصريف الإنتاج.
مشروع اقتصادي بسيط
الخبير الاقتصادي الدكتور رامز درويش، أوضح أن مشروع المناحل من أقدم النشاطات الاقتصادية الريفية في سوريا، نظراً لبساطة أدواته وانخفاض تكاليفه، ما يجعله مناسباً لأي شخص يرغب بالعمل فيه، كما أن ساعات العمل النحلية تضاعف الأرباح وتساعد على الاستمرارية، بالإضافة إلى أن الأساليب المستخدمة في الإنتاج والتوزيع بسيطة وملائمة للظروف البيئية والجوية والزراعية، ونسبة المخاطرة قليلة.
وبين د. درويش أن دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع بسيطة وسهلة، وتحسب التكاليف الثابتة (القناع الواقي، القفازات الجلدية، المباني، الأصول) والتكاليف المتغيرة (عبوات التغليف، الأجور، المبيدات، والصيانة)، على مدار حياة المشروع وتسمى “دورة رأس المال”. ولنجاح المشروع أوضح د. درويش أنه لابد من تأمين قروض مصرفية طويلة الأمد، وخفض قيمه القسط الدوري المدفوع، والمتابعة المنتظمة في كل المراحل الزمنية، واتباع أساليب جديدة في الترويج الإلكتروني لمنتجات العسل.
كنوز طبية
رئيس الجمعية العلمية السورية للطب التكميلي والتجانسي والتغذية، الدكتور شادي خطيب، أكد أن النحل مصدر طبيعي غني بمنتجات ذات قيمة طبية عالية، مثل العسل ومشتقاته الذي يعرف بقدرته على تثبيط نمو الميكروبات، وشفاء الجروح، وعلاج أمراض مثل السعال والحروق.
كما أنه يحتوي على مركبات مضادة للأكسدة ومضادة للالتهابات، ما يجعله فعالاً في تعزيز المناعة ومكافحة الالتهابات المزمنة.
وأضاف: بالنسبة لصحة الإنسان، يُعد العسل مصدراً غنياً بالفيتامينات، مثل B وC، والمعادن، مثل الحديد والكالسيوم والفوسفور والصوديوم والبوتاسيوم والمغنيسيوم والزنك، ما يجعله مصدراً مهماً للطاقة، ويحتوي على خصائص مضادة للبكتيريا والفيروسات، ما يعزز جهاز المناعة ويحمي الجسم من الأمراض المعدية، ويساعد في تحسين صحة الجهاز التنفسي، ويساهم العسل في خفض مستويات الدهون في الجسم، والوقاية من أمراض الجهاز الهضمي، وهو آمن كمهدئ للكحة وعلاج موضعي للجروح الصغيرة. وعن منتجاته الأخرى بيّن د. خطيب أن البروبوليس (العكبر) والشمع، تدعم الصحة من خلال مضادات الأكسدة والإنزيمات الطبيعية التي تعزز المناعة وتجدد الجلد، ويعتبر من المركبات الطبيعية المُضادة للجراثيم، كما أثبتت الدراسات الحديثة فعاليته في مكافحة السرطان، وتخفيف القلق، وعلاج قرح البرد. ونوه د.خطيب إلى أن خلية نحل واحدة تنتج مابين 25- 45 كغ من العسل سنوياً، حسب الظروف البيئية، وفي دراسة أجرتها عيادة “أبيثيرابي” في مقاطعة هوبي، الصين – مركز تفشي كوفيد-19 – شملت 5115 نحالاً محلياً، لم يظهر أي منهم أعراض الفيروس، وربما يعود ذلك إلى استخدام البروبوليس.
وعن الغذاء الملكي قال د. خطيب: إنه يُستخدم في تعزيز المناعة ومكافحة الشيخوخة، بفضل محتواه من البروتينات والفيتامينات، فيما يُستخدم سم النحل بإشراف طبي في علاج الالتهابات المفصلية والأمراض المناعية مثل التصلب المتعدد.
زراعة اللاذقية
تواصلنا مع مديرية الزراعة باللاذقية للوقوف على الأرقام والإحصائيات عن كمية الإنتاج، أعداد المربين، الدعم الحكومي، والصعوبات وغيرها، لكن زراعة اللاذقية رفضت إعطاء أي معلومة بذريعة توقف إعطاء التصريحات من قبل الإدارة، علماً أن الحصول على المعلومة الصحفية من حق الصحفي، ومن واجب الجهات المسؤولة.
تراجع الإنتاج
أما نقيب المهندسين الزراعيين باللاذقية المهندس، المعتز بالله قاسم، فبيّن أن عدد خلايا النحل في المحافظة يقدَّر بحوالي 45 إلى 50 ألف خلية موزعة بين القطاعين الخاص والتعاوني، ويعمل في مجال تربية النحل ما يقارب 900 إلى 1000 مربٍّ، ويبلغ الإنتاج السنوي من العسل الطبيعي نحو 180 إلى 200 طن سنوياً، ويختلف بحسب الظروف الجوية والمراعي المتاحة في كل موسم، وذلك وفق تقديرات النقابة المستقاة من مديرية الزراعة واتحاد النحالين العرب – فرع اللاذقية.
ولفت م. قاسم إلى أن إنتاج العسل في المحافظة تراجع بشكل طفيف خلال السنوات الأخيرة، نتيجة العوامل المناخية (ارتفاع درجات الحرارة، الجفاف) وحرائق الغابات التي أثّرت على المراعي الرحيقية. فقد كان الإنتاج قبل نحو خمس سنوات يتجاوز 250 طناً سنوياً، بينما انخفض مؤخراً إلى حدود 200 طن، وهناك مؤشرات على تحسّن تدريجي في العامين الأخيرين بفضل إعادة تأهيل المناحل وتوسيع برامج التدريب والدعم الفني للمربين.
دعم المربين
وأوضح قاسم أن النقابة، بالتعاون مع زراعة اللاذقية واتحاد النحالين، تدعم المربين من خلال دورات تدريبية وتأهيلية متخصصة، وتقديم الاستشارات الفنية والميدانية للمربين عن طريق مهندسين مختصين، وتسهيل تأمين مستلزمات الإنتاج مثل الخلايا، شمع أساس، أدوية ومعقمات، بأسعار مناسبة، والتنسيق مع الجهات المعنية لتأمين الدعم المادي أو القروض الصغيرة للمربين، وتنظيم معارض ومنتديات لتسويق العسل المحلي وتشجيع العلامات التجارية الريفية.
ولفت نقيب المهندسين الزراعيين إلى أن الدورات التدريبية تتضمن عدة محاور عملية وعلمية، منها: التعريف بأسس تربية النحل الحديثة وإدارة الخلايا في مختلف الفصول، وتشخيص الأمراض والآفات مثل (الفاروا، والنوزيما) وطرق الوقاية والعلاج، وتحسين جودة الإنتاج من خلال التغذية الطبيعية، وإدارة موسم الفيض، وطرق جمع وفرز العسل وتعبئته بما يتوافق مع المعايير الصحية، والإدارة الاقتصادية للمناحل وكيفية حساب تكاليف الإنتاج والربحية، والسلامة المهنية في التعامل مع النحل، وأهمية المحافظة على البيئة الرحيقية.
تحسن تدريجي
وعن رؤية النقابة لواقع إنتاج العسل في المحافظة قال م.قاسم: “تقيّم النقابة واقع إنتاج العسل في اللاذقية بأنه في طور التحسّن التدريجي بعد مرحلة من التراجع، إذ بدأ عدد من المربين الشباب بالعودة إلى المهنة بطرق حديثة وبمساعدة الجهات الإرشادية”.
صعوبات ومقترحات
وأشار م.قاسم إلى وجود صعوبات تواجه قطاع تربية النحل أبرزها: التغيرات المناخية، والجفاف، وحرائق الغابات التي تقلل المراعي الطبيعية، وارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج وصعوبة تأمينها في بعض المواسم، وقلة الوعي الفني لدى بعض المربين الجدد، وضعف الالتزام بالممارسات السليمة.
ورأى نقيب المهندسين الزراعيين أن تطوير هذا القطاع الحيوي في اللاذقية يتطلب: توسيع المساحات المزروعة بالنباتات الرحيقية (الكرمة، الزعتر، الأكاسيا، الحمضيات)، وتقديم دعم مادي مباشر للمربين لشراء مستلزمات الإنتاج وتجديد الخلايا، وتفعيل برامج تدريبية مستمرة في كل منطقة ريفية تضم منح شهادات تخصصية، وإنشاء مركز تحاليل جودة العسل في اللاذقية لضمان مطابقة المنتج للمواصفات السورية، والتنسيق بين النقابة ومديرية الزراعة واتحاد النحالين لإطلاق مهرجان سنوي للعسل الساحلي، والعمل على تسويق العسل المنتج محلياً بعلامة جودة خاصة باسم “عسل الساحل السوري”.
وأكد أن النقابة مستمرة في دعم المربين مادياً وفنياً، وتعمل مع الجهات المختصة لإعادة هذا القطاع إلى سابق عهده بما يخدم اقتصاد المحافظة والبلاد.
صناعة متكاملة
اختصاصي الحشرات الاقتصادية في كلية الزراعة بجامعة اللاذقية الدكتور خليل ميكس، أوضح أن تربية النحل اليوم صناعة قائمة بذاتها، لها العديد من الفوائد على القائمين عليها، وعلى الاقتصاد الوطني، وقد يكون المربي هاوياً، يملك عدد قليل من الخلايا، يعمل للحصول على العسل للاستخدام الشخصي، أو محترفاً يملك الكثير من الخلايا، في هذه الحالة يحتاج إلى خبرة وعمالة مدربة للحصول على عائد مادي مناسب.
وأشار د.مكيس إلى أن تربية النحل في سوريا تعود إلى نحو 5000 سنة، واليوم أخذت تربية النحل شكلاً تجارياً، تتطلب مهارات خاصة في التربية والرعاية وجني العسل، ومنتجات النحل الأخرى مثل الشمع، العكبر، وسم النحل.
الساحل مركز لتربية النحل
وأوضح د.مكيس أن تربية النحل في سوريا تتركز في الساحل، نظراً لتنوع مصادر الغذاء واعتدال المناخ على مدار السنة، وفي محافظات دمشق، ريف دمشق، السويداء، إدلب، حماة، منطقة الغاب، حلب، حمص، بينما تندر في بادية الشام، دير الزور، القامشلي، الرقة كون تربية النحل مرتبط بمصادر الغذاء الوفيرة المتمثلة في رحيق وحبوب اللقاح، وتعد بادية الشام من أفضل المناطق المنعزلة والملائمة لتربية ملكات نحل العسل بصورة نقية.
وعن واقع تربية النحل في اللاذقية بيّن د.مكيس أن التراجع بدء عام 2011، حيث بلغ عدد خلايا نحل العسل بالمحافظة أكثر من 50 ألف خلية عامرة بالنحل، وهناك جملة من الأسباب أدت إلى هذا التراجع أبرزها:
ـ عدم نقل خلايا نحل العسل إلى المراعي النحلية في المحافظات السورية الأخرى.
ـ هجرة مربي النحل إلى خارج سوريا أو العمل بمهن أخرى لتأمين المعيشة اللائقة لأسرهم. ومنذ عام 2016 وحتى اليوم لعبت الظروف البيئية الجوية عاملاً رئيسياً في قلة إنتاج خلايا النحل للعسل، وغيره من المنتجات، وذلك بسبب ارتفاع درجات الحرارة صيفاً بشكل خاص، وندرة الغذاء الطبيعي للنحل في المراعي النحلية الرحيق وحبوب اللقاح، بالإضافة للحرائق التي أصابت المراعي النحلية في المحافظة مثل الغابات والمحاصيل الزراعية المختلفة بمناطق انتشار الحرائق وهذا ما سبب موت خلايا نحل العسل المتواجدة في تلك المناطق.
تطوير قطاع النحل باللاذقية
ومن أجل تطوير قطاع النحل في اللاذقية قدم د.مكيس مجموعة من المقترحات أهمها:
ـ نشر الوعي عبر وسائل الإعلام والوحدات الإرشادية عن أهمية تربية النحل في تلقيح المحاصيل الزراعية المختلفة، ما يحسن من إنتاجها كماً ونوعاً.
ـ زراعة المناطق الحراجية والأراضي المحيطة بها بأشجار ذات إنتاجية من الرحيق والحبوب، مثل الكينا، وخاصة الأسترالية والخرنوب والحمضيات، واليانسون وحبة البركة.
ـ تقديم دعم مادي “قروض” للمربين الجدد أو القدامى.
– إدخال العنصر النسائي في التربية لأن المرأة عندما تنشط في هذا المجال ينشط معها افراد الأسرة.
ـ فتح آفاق التعاون مع جامعة اللاذقية للاستفادة من خبرة المختصين في هذا المجال للمبتدئين وأصحاب الخبرة، ومنحهم شهادات تخصصية في هذا المجال مما يقلل من استيراد سوريا من منتجات النحل.
تشريعات مقترحة
وأكد د.مكيس أنه لتطوير تربية النحل لابد من وجود تشريعات وقوانين على مستوى الدولة تنظم المهنة، كما هو الحال في العديد من الدول منها:
ـ قانون يمنع انتقال أقراص (إطارات) شمعية أو بيعها، لمنع إنتشار بعض أمراض النحل.
ـ قانون يمنع نقل النحل من منطقة لأخرى، إلا بتصريح خاص وبشهادة تثبت خلوه من الأمراض.
ـ قانون يمنع استيراد النحل (طرود، ملكات..)، ومراقبة تنفيذه في جميع المنافذ الحدودية.
ـ قانون لتحديد مواصفات العسل وشمع النحل السوري، ومراقبة تنفيذه.
والجدير بالذكر أن وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، وبحسب وكالة سانا، وضعت خطة متكاملة لدعم المربين، وتحسين سلالات النحل، لزيادة الإنتاج وتحسين جودته، تقوم على برامج رئيسية هي:
ـ تحسين وتطوير سلالة النحلة العسلية البلدية السورية المتميزة بقدرتها العالية على مقاومة الأمراض وتكيفها مع الظروف المحلية.
ـ تطوير البنى التحتية لمراكز تربية النحل بالمحافظات.
ـ تنظيم وتنمية المراعي النحلية لضمان توافر مصادر غذائية متنوعة للنحل على مدار العام.
ـ تطوير صناعة العسل وتشجيع الاستثمار.
ـ تطوير الخدمات الإرشادية والبحث العلمي لتزويد المربين بالمعلومات الحديثة.
وتعمل الوزارة على دعم تسويق العسل السوري عبر تنظيم المعارض والمهرجانات، وتشجيع زراعة النباتات الرحيقية المناسبة للبيئة السورية، وتوفير شتولها بأسعار رمزية للمربين.