عجلة الحضارة تدور بوتيرة متسارعة أكثر فأكثر، ومنجزاتها في كل المجالات تظهر إلى العلن بينما تفاجئنا باستمرار بجديدها، ونحن نلهث وراءها حتى نكاد لا نلتقط أنفاسنا حيال أحد المنجزات فإذا بجديد آخر يبزغ على الساحة.. وهذا يضعنا بالتالي في المواجهة مع أنفسنا، ونحن نتصدى للتعامل السليم مع ما أصبح متاحاً لنا جميعاً استخدامه من الوسائل التكنولوجية المتطورة.. إذ كيف سنحسن استخدام أي أداة لنحقق الغاية المرجوة منها ما لم نتعرف إلى شروط الاستخدام، ونشكّل صورة ذهنية عن كيفية تحقيق الفائدة المطلوبة؟
لكن ما يجري في حقيقة الأمر أن بعض هذه الأدوات، والوسائل الحديثة تُستغل بأساليب تتنافى مع الغرض الذي صُممت لأجله سواء في مجال توفير الجهد، أو حسن استغلال الوقت، أو تطوير القدرات الفردية.. فها نحن نتعلم بواسطة شبكة المعلومات، وننجز معاملاتنا المالية أيضاً من خلالها، وندير أعمالنا من أماكن بعيدة عن مقرّاتها بفضلها، والساحة مفتوحة أمامنا للاطلاع على الأبحاث، والمؤلفات، كما الأخبار، وما يستجد من الأحداث حتى في مواقعها، ووقت حدوثها.. هل أعدد كل ما أصبح متاحاً؟ بالطبع لا.. فهو أكثر من أن يُحصى، وأشهر من أن يُذكر، فما من أحد على وجه الأرض بات بعيداً عن مفردات الحضارة المعاصرة، أو لا يتعامل معها.. إلا أن نمط تفكير جديد قد ترافق مع ظهورها ألا وهو تسخيرها لغايات مستخدمها لا للغاية المرجوة منها.
فها هو التزييف العميق الذي طال كل ما يخالف العقود، والعهود، وتعليمات المواقع، والدول، فوصل إلى الأفلام القصيرة (الفيديو) وهي تسري من جهاز إلكتروني إلى آخر على مدار اليوم في تلاعب بالصورة، وبالصوت، وبتركيب العبارات بما هو ليس من أصل الشيء، وكذلك حال الصور المركّبة، وقد أصبح أمرها مفضوحاً.. والأخبار الملفقة التي يظن المرء للوهلة الأولى أنها صحيحة، مما جعلنا نشكك في كل ما يصل إلينا.. ليبدأ البحث عن مصداقية ما نرى، ونسمع عبر المواقع الموثوقة.
لقد خلقت إمكانيات التزييف حالة من عدم الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخر، وروّجت لمفهوم الخداع الذي يلبس ثوب التبرير، ويدّعي البراءة.. فكم من الأكاذيب انتشرت، وخاصة في فترة تقييد الحركة بسبب الوباء، وكم من أناسٍ صدّقوا، ولم يشكّكوا، حتى بدأت العلاقات فيما بينهم تتأثر بما يذاع ويشاع.. لكن الأمر في الواقع لا يقف عند هذا الحد فقط بل إنه يتخطى الفيلم القصير، والخبر السريع، والصورة المعدّلة، وما أكثر البرامج الإلكترونية التي تمكّن من تحقيق ذلك، ليتجاوزها إلى ما هو أكبر، وأكثر إساءة عندما يصل الغش إلى الرسائل الجامعية التي تستقي مادتها من رسائل أخرى مبثوثة على شبكة المعلومات، ويمكن الوصول إليها بسهولة ليفوز الطالب بالنجاح، وينال ما يرغب من الدرجات.. كما يصل إلى الدراسات، والأبحاث المسروقة التي لا تتطلب إلا بعض التعديل لتُمهر باسم مزيف.. أو أن يصل إلى الأدب عندما يقوم مَنْ يدّعي الموهبة بالتقاط الأفكار، والعبارات من هنا وهناك، ومن كل ما هو متاح على محرك البحث ليطلع علينا بقصيدة يظن أنها غرّاء، أو برواية يعتقد أنها عصماء، ويطمح من خلالها بالفوز بإحدى الجوائز الأدبية وهي تتكاثر بتكاثر أعداد من أصبحوا يكتبون.
هكذا بات الحال مع ظهور عدد من البرامج التي تقوم بتعديل الأفلام، وتحريرها، والصور، وغيرها، وهي مبذولة بالمجان لكل من يرغب، ولا يحتاج استخدامها إلى مهارات خاصة فهي سهلة، وواضحة التعليمات، ولن يصعب ذلك على مَنْ يتعامل مع الوسائط الرقمية، وخاصة من الأجيال التي نشأت في الزمن الرقمي.
فماذا نحن فاعلون؟ هل ندع الأمر على ما هو عليه من تضليل، وتزييف، أم نلجأ إلى إنشاء منصات رقمية للتوعية تشرف عليها جهات مسؤولة كتلك التي تهتم بحفظ الهوية، والتراث، والتاريخ، لتدقق، وتفرز ما يتداوله العامة من أخبار، وصور لقيطة غير معروفة المصدر حتى لا يقع الناس في مصائد للكذب؟ أم نطالب الإعلام بالمساهمة الجادة في نفي ما هو من الملفق، ونشر ما هو صحيح، وحقيقي؟ أم نخصص مواد دراسية تعرّف بما يمكن تزييفه، وترشد إلى طرق كشفه ليقوم الأفراد بأنفسهم هذه المهمة؟.
وإلى أن نهتدي إلى سبل الوصول إلى كشف حقائق الأمور، ويتشكل الوعي العام، يظل الشك قائماً، ومبرَّراً مع سؤال: أين الحقيقة؟ حتى لا تسحبنا دوامات التزيف، والكذب التي تبدأ من البسيط لتصل إلى العميق الذي لا يُكشف بسهولة، والذي يؤدي إلى مزيد من الضبابية، والتضليل.
(إضاءات) ـ لينــــــا كيـــــــلاني