البلاغة في الإيجاز وخير الكلام ما قلّ ودلّ.. وقديماً كانوا يقولون: المكتوب مقروء من عنوانه ومن باب البلاغة التي يجب أن تكون عنواناً لهذا الحديث وكما يفترض العالم الإلكتروني الذي على اتساعه وقدرته التخزينية يتطلب الاختزال إذ نجح من يريد أن يحولنا في هذا الكون إلى ذرات بلا أبعاد..
ولأني جانبت البلاغة إذ كنت يجب أن أعنون الزاوية…بـ لو كنت حذّّاء.. بتشديد الذال..أي صانع أحذية، ولكن خشية أن تقرأ حذاء دون التضعيف زاد العنوان كلمة، وبالتأكيد لن يضيق بها هذا الأزرق اللجب لكنك قد تضيق بها كقارئ إذا قررت أن تتعب عينيك قليلاً وتلقي نظرة على ما كتب…
والحكاية ببساطة أننا في بيتنا كنا نجد سندانا ومطرقة وأدوات متعددة لا نراها في بيوت الآخرين..
وكثيرا ما كان الجيران على عادتنا جميعاً يستعيرونها حين الحاجة…
يكمل هذه الأدوات ما يشبه المغارة الصغيرة مملوءة بقطع (الغوما)أي بقايا كاوتشوك ودواليب…
حين كبرت بنا الدنيا قليلا..كان لابدّ من البحث عن سر ذلك…ومن غير الأب سوف يقدم الإجابات؟.
أبي رحمه الله المنغرس بالأرض بدأ يروي تفاصيل كثيرة عن مرارة الحياة وعن المهن التي عمل بها…
ومنها أنه عمل صانع أحذية… كان مقصداً للجميع، لكنّه ترك المهنة النبيلة لأنه لم يستطع تطوير أدوات صناعتها والمنافسة مع دخول أدوات جديدة باهظة الثمن لا قدرة له على شرائها…
اليوم أسأل نفسي وأنا حزين…لماذا لم أصبح صانع أحذية..؟. وتقمصت دور من يصنعها وشطّ بي الخيال…ها أنا جالس أمام السندان أصنع حذاء…أصلّح آخر، ولكن الواقع يقول: لن تطعمك مهنتك هذه خبزاً: الأحذية الآن من جلد التماسيح والنمور، والجواميس، وهي مستوردة من إيطاليا وفرنسا، فكيف لك وأنت لا تملك قرشاً أن تستورد المواد الأولية لمثل هذه الصناعة وحتى لو فعلت ذلك، من ذا الذي يشتري ماركة محلية، ألا ترى المباهاة بما يرتدونه: سترة بسعر نصف مليون على الأقل، وحذاء يزيد على ذلك أضعافاً، وقس على هذا الكثير، ومن هو الذي يحتاج إلى إعادة إصلاح حذائه؟.
هنا أخطأت الهدف، ثمة من يفعل ذلك، إنهم الفقراء، الذين يعيدون ترقيعه عشرات المرات حتى يكاد يكون قطعاً صغيرة تراصت، ومع ذلك تابعت الحلم، وها هو السندان أمامي، وحذاء يصنع من (الغوما) ليبقى طويلاً طويلاً، يقي الذين يتعبون أنفسهم من أجلنا شر الأشواك والأحجار والدروب الوعرة، أقدام من نبت الزهر تحت وقعها، لأنها صانعة للحياة أحذية نبل لمن ارتقى من أجل أن نبقى، وقد أطور صناعتي لصنع قفازات من نسغ الحياة لتكون مرهماً لمن تشققت كفاه وهو يعمل، وقد وقد..
لكن ماذا عن الذين يجدون الحرير خشناً، وكان بعضهم (يبري بظفره القلم، هل عليّ أن استورد جلود الغزلان والأفاعي لأصنع منها أحذية وحقائب (للباربيات) التي يتزينون بها؟.
قد أنحرف وأسعى لأكون واحداً منهم، ولن يضيرني أنّي صانع أحذية، فالمال يصنع المعجزات، وقد يدفع بي إلى أماكن لا علم لي بها، ولكن أعتز أني صانع أحذية، ليت الأمر كان حقيقة، لقدمت للكثيرين حذاء الطنبوري، وآخرين حذاء سندريلا….ولكن؟ّ.
معا على الطريق – ديب علي حسن