كانت صدمة قاسية لحظة قرأت على الفيسبوك نعي الصديق محمد حسام الدين رغم أني كنت على معرفة بواقعه الصحي الصعب وقد حدثني عنه في آخر اتصال هاتفي من مقر إقامته في (دار السعادة) بدمشق، حيث استكمل فيها سنوات غيابه عن المشهد التشكيلي السوري، بعد ثمانية عقود من الحضور الحيوي الخلاّق.
ربما يعود هذا الحضور إلى عام 1948 وهو طالب في مدرسة التجهيز الأولى بحمص لم يتجاوز عمره الاحدى عشر سنة، حين لفت انتباه أستاذ الرسم الفنان الرائد صبحي شعيب فشجعه على تنمية موهبته والمشاركة في معارض المدرسة، ومن ثم،وبعد سنتين تحديداً، قام ومجموعة من الفنانين الشباب بتنظيم معارض مشتركة في النوادي والمراكز الثقافية والمدارس. وكانت المجموعة تضم إلى جانبه:أحمد دراق السباعي ولبيب رسلان وغسان سباعي وفيصل عجمي وعون دروبي. في عام 1957 بدأت مشاركته في المعرض السنوي للتشكيليين السوريين واستمرت حتى التسعينات، بعد عشر سنوات من مشاركته في المعرض الذي تنظمه وزارة الثقافة أوفدته الوزارة إلى براغ (تشيكوسلوفاكيا) لدراسة الخزف عام 1967، فدرس النحت إلى جانبه وحصل على لقب نحات أكاديمي اختصاص خزف وقد يكون أول فنان سوري اختص في هذا المجال، ما دعا بعض الكتابات الصحفية إلى وصفه برائد فن الخزف السوري الحديث، إلا أنه من جهته لم يكن موافقاً على هذاالوصف، مشيراً باستمرار إلى تجارب عدد من فناني الجيلين الثاني والثالث، وعلى وجه التحديد الى الفنان محمود جلال وابنه خالد، وإلى الأساتذة المصريين الذين أسسوا المعهد العالي للفنون الجميلة بدمشق (كلية الفنون الجميلة)، وأدخلوا الخزف في منهاج قسم النحت. الريادة الفعلية لفن الخزف وجدها محمد حسام الدين في ابداعات خزافي حضارات ما بين النهريين، التي استلهمها في كثير من أعماله الحديثة كما في تمثال خزفي أنجزه عام 1969 ويمثل حصاناً ووجهاً بشرياً صاغه بأسلوب الحضارات السورية الأولى، وتمثاله الخزفي (وجه سوري آشوري) عام 1971، وقبله في ميدالية خزفية لمدرسته العليا في براغ بمناسبة مرور ثمانين عاماً على تأسيسها، كما استلهمها في تمثال برونزي عام 1995.
إثر تخرجه من براغ قام بتدريس الخزف في مركز الفنون التطبيقية بدمشق (مركز أحمد وليد عزت حالياً)، وفي كلية الفنون الجميلة، وإذا كان وصف رائد فن الخزف لم يتفق مع رغبته، فإن وصف (الأب الروحي لفن الخزف المعاصر في سورية) يمثل حقيقة لا تقبل مجاملة، فعلى يديه درس معظم الفنانين السوريين الذين عملوا في مجال الخزف، إن لم نقل جميعهم، إضافة إلى بعض الخزافين العرب المميزين. أما بالنسبة لتجربته الشخصية كخزاف فقد تميزت بالروح العصرية، حتى في الأعمال المستلهمة من الإرث الإبداعي القديم، وشملت التماثيل والصحون واللوحات الجدارية والميداليات وسواها، ويحتفظ متحف حلب بواحد من أجمل هذه الخزفيات وقد ساهم بجهده الشخصي بإدخال سورية إلى منظمات الخزف العالمية، ومثلها في غير ملتقى منها: مؤتمر رمهيلد للخزف في المانيا عام 1981، ومؤتمر المائدة المستديرة للفن التطبيقي في القاهرة حيث اُختير رئيساً له.
لم يقتصر إبداع محمد حسام الدين على فن الخزف، فقد مارس التصوير بالألوان المائية والزيتية وغيرهما من التقنيات، كما قام بتصميم ثلاثين من أغلفة كتب وزارة الثقافة عكست رؤيته الإبداعية المعاصرة، وعمق معرفته الثقافية، وكانت علامة مميزة في تاريخ هذا النوع من الفن في سورية، عمق المعرفة الثقافية تجلى بعدد كبير من المقالات الفكرية الفنية التي نشرها في غير مجلة وصحيفة، وخاصة مقالة نشرها في صحيفة (الثورة) مطلع الشهر السادس من عام 1995 تحت عنوان (الإبداع هل يمكن أن يكون دون ثقافة؟). كما ترجم عدداً من النصوص في مقدمتها مقالة للباحث الجمالي الشهير هربرت ريد بعنوان (لن يبعث الفن إلا إذا بعثت الحياة) و نشرها في مجلة (الحياة التشكيلية)، إضافة إلى كتاباته عن تجارب زملائه الفنانين السوريين. ويتوج ذلك كله المشروع الرائد الذي أطلقه مع زميله حسان أبو عياش صيف عام 1988 تحت عنوان (فنانون تشكيليون سوريون)، وقام هذا المشروع على إصدار كتيبات صغيرة وملونة وذات طباعة ومظهر أنيقين يتناول كل منها فنانين تشكيليين سوريين بدءاً من جيل الرواد. وقد صدرت أربعة كتب ضمن هذه السلسلة إلا أن مشكلة غياب التمويل حالت دون استمرار هذا المشروع الثقافي الطموح.
لم يعش محمد حسام الدين في الظل، لكنه كان بعيداً عن الاستعراض الإعلامي، وفي الوقت ذاته حاضراً بصدق وعمق في كل جوانب المشهد التشكيلي السوري. كفنان ومعلم ومثقف وصاحب مبادرات حقيقية لا يمكن نسيانها، كما لا يمكن نسيان حيويته المدهشة ومرحه الرصين الممزوج بنزقه الجميل وروحه المحبة المعطاءة.
إضاءات – سعد القاسم