عرف ستانلي كارنوف وهو مفكر وسياسي معروف أميركا بأنها دولة متحركة لا تطيق الوقوف مكانها وتعتقد أن الوقوف يعني الاستسلام أو التراجع، والوقوف هنا يعني التوقف عن الحروب والعدوان والاستثمار في شعوب العالم وثرواته وهوما يشكل – إن حصل – الموت البطيء لها وهو في هذه الفرضية ينطلق من حقيقة أن العقلية السياسية والثقافية التي تشكلت في تلك الإمبراطورية قامت على فكرة الهجرة والمهاجر الذي يجد ذاته في المال والاستثمار بل ويغامر وربما يقاتل في سبيل تحقيق ذلك الهدف، فالمال والثروة هما الأيدي والأرجل التي تتحرك من خلالهما تلك الإمبراطورية لهذا كله نشأت وتأسست واستمرت على تحالف عضوي بين المال والسلاح والفكر.
بهذا المعنى يمكننا أن نحلل ونفسر إلى حد بعيد طبيعة التفكير السياسي أو لنقل الثقافة السياسية التي حكمت مسار تلك الإمبراطورية بعيداً عن التوصيف الأيديولوجي للأحزاب التي نشأت فيها أو النخب التي أنتجتها وضختها في مفاصل السلطة الأميركية ومراكز القرار فيها من هنا يمكننا الجزم بأن هذه النخب التي تتوزع في مراكز القرار هي انعكاس مباشر بل ترجمة عملية لتلك الثقافة المحكومة بعقلية الهيمنة ولعل ما جاء على لسان أحد اهم شعراء أميركا وهو والترايتمان: ندماً أقف على شاطئ كاليفورنيا وأمد البصر إلى بعيد اسأل بلا كلل أي شيء هناك وراء هذا البحر لم يكتشف بعد، هو التجسيد العملي لهذه الثقافة.
إن نزعة الهيمنة والسيطرة والقوة هي بالفعل ما يحكم سياسة تلك الإمبراطورية على الأقل حتى الآن وإلا فكيف يمكننا أن نفسر كل هذا السلوك الأميركي العدواني تجاه بعض شعوب العالم التي لا تستجيب لفكرة الهيمنة الأميركية أو تسير في ركابها أو تكون إحدى أدواتها لتحقيق استراتيجيتها الكونية تلك.
لقد ساد اعتقاد عند الكثير من الساسة ورجال الفكر والثقافة والإعلام في العالم وحتى في الداخل الأميركي -وقد ثبت عدم صحته -بأن ثمة تغييراً حقيقياً سيصيب الاستراتيجية الأميركية بعد وصول الرئيس الأميركي جوزيف بايدن إلى سدة البيت الأبيض مع بداية 2021 انطلاقاً من أنه جاء تحت شعار التغيير والقطيعة مع استراتيجية القوة والتوسع والهيمنة التي سار عليها سابقوه من الرؤساء الأميركيين وهو ما أوصل أميركا إلى أزمة اقتصادية وأخلاقية بالدرجة الأولى جعل بعض رجال الفكر والثقافة فيها يطرحون سؤالا إشكالياً وهو لماذا يكرهوننا- أي شعوب العالم – ما حدا بمرشح الرئاسة الأميركية الأسبق باراك أوباما أن يقدم مقاربة جديدة في علاقة الولايات المتحدة الأميركية مع دول العالم تقوم على الحوار بدل القوة وجاذبية النموذج بدل الاستئثار والاستثمار في المعطى العسكري الاستراتيجي الأميركي وهو ما يفترض أنه أحد أهم الأسباب التي أوصلته إلى سدة البيت الأبيض.
لقد شكل الرئيس أوباما في بداية ولايته الرئاسية انطباعاً عاماً عند أغلب متابعيه من محللين سياسيين ورجال فكر وثقافة أنه سيكون على قطيعة شبه تامة مع الإرث السياسي الأميركي التقليدي وهو ما خلق نوعاً من التفاؤل والتعاطف مع توجهاته ابتداء وعلى خلفية ذلك منح جائزة نوبل للسلام ولاسيما أنه تحدث بلغة مختلفة إلى حد ما في جولته في بعض البلدان العربية والإسلامية ولاسيما مصر وتركيا حيث قدم نفسه بلغة تغلب عليها روح مارتن لوثر كينغ زعيم الحقوق المدنية الأسود الذي اغتيل في عام ١٩٦٨ والحلم الذي حمله طيلة حياته وقضى من أجله وهو المساواة والحرية والكرامة للسود في مواجهة مجتمع محكوم بنظرة عنصرية تجاه الزنوج وأخرى استعلائية تدعى كذباً رسالة الرجل الأبيض تجاه شعوب العالم الثالث.
لقد انحاز الرؤساء الأميركيون عبر سياساتهم التي انتهجوها وخاصة في مواجهة الأزمات في المنطقة على وجه العموم إلى النموذج الأميركي التقليدي وهو أزعومة رسالة الرجل الأبيض أي الثقافة السياسية الأميركية القائمة على معطى القوة والهيمنة وعدم احترام إرادة الشعوب أو الشرعية الدولية مع محاولة تغليفها بنزعة أخلاقية عبر الحديث عن الإرث الأخلاقي الأميركي في محاولة يائسة منه استعادة ما خسرته أميركا نتيجة سياسات حمقاء اتبعتها في مواجهة الكثير من شعوب العالم عبر عملية خداع وتضليل مكشوفة تحاول الضرب بذراع عسكرية مغلفة بقفازات مخملية؟.
إضاءات- د . خلف المفتاح