لكأني أعود ثمانية وخمسين عاماً للخلف أعيش لحظة كانت نقطة تغيير غير متوقع في حياة سورية والمنطقة، ومثلت مرحلة وحياة جديدة ونقطة تحول في مسار الشعب السوري، وانعكست على علاقات المجتمع الاقتصادية والثقافية قبل انعكاساتها السياسية الكبرى.
كان صباح الجمعة ١٩٦٣ حاملاً لخلاصة قرارات اتخذت بالخلاص من تركة وتراكم كبيرين على المستوى السياسي والعسكري والسياسي، ليكون الرد عليها من خلال بوابة المجتمع المحمول في وجدان مناضلين رهنوا حياتهم ومسيرتهم لحمل هموم أهلهم ملتزمين تقديم الغالي والنفيس دون طلب تعويض أو مكأفاة أو جزاء.
نعم هكذا انطلق البعثيون، وبذلك آمنوا، وذلك ما تمثلوا في سلوكهم وتصرفاتهم وممارساتهم اليومية، فدخلوا مرحلة تغيير اجتماعية واقتصادية وسياسية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة العربية، واتخذوا سلاح الإيثار والتضحية والفداء منهاجاً لحكم دولة صغيرة كانت تتلمس مكانتها في التاريخ الحديث، حملت أفكاراً حضارية لشخصيات وطنية نشأت وسط بيئة منتمية لطين الأرض، تربط البادية بمروج العطاء، وتصل النهر لمصب الجفاف، فتغني الحياة، وتبعث الأمل بربيع حقيقي لا ينتهي.
حمل البعثيون شعار التضحية دون الاستفادة (البعثي أول من يضحي، وآخر من يستفيد) سلوكاً تطبيقياً بحثاً عن آلية ردم الهوة المعرفية والمسافة الحداثوية مع الدول المتقدمة اعتماداً على مقدرات وطنية محدودة، فالقادمون إلى حكم البلاد مجموعة من الشباب المثقف والحالم في آن واحد، يحملون الأفكار والآمال الكبيرة، لكنهم يفتقرون للمعرفة والتجربة والاختصاصات اللازمة لتحريك الاقتصاد والإدارة وتوجيه الثقافة والتربية والتعليم، فأي المسالك يتبعون؟ وأي الطرق يختارون؟ وأي مجتمع ينشدون؟
لقد كانت الظروف الداخلية والإقليمية والدولية صعبة وشديدة الحساسية، الأمر الذي يعني صعوبة الخيار والاختيارات، فالقادمون فئة من الشباب أتوا ليملؤوا فراغاً تركته قيادة قومية وعالمية بفعل عمل انفصالي بغيض، والقائد الراحل يحظى بدعم وتأييد ورضا لم يسبق لزعيم عربي حيازتها في العصر الحديث، فهل يملأ قلة من الشباب البعثي مكان جمال عبدالناصر وهم يحملون القومية العربية هماً ويرفعونها شعاراً؟
وفي الداخل كانت الوقائع أصعب وأشد تعقيداً، فالنهج البعثي لا يتوافق وسلوك وممارسات كبار الموظفين في إدارات الدولة المختلفة، وتلك الإدارات لديها الخبرة الكافية والمعرفة الكبيرة والعلاقات القوية، فيما الشباب الثائر يفتقر لتلك المقدرات ولا يملك من الاختصاصات العلمية والبحثية إلا القليل، فكيف يعوض هذا النقص، وهو يواجه من يتربص بثورته وينتظر لحظة الانقضاض عليها؟
وهكذا كانت مخاضات البعث غاية في المجاهدة والصعوبة لتعويض الفاقد والنقص ليأتي المنهاج المرحلي بمثابة أسلوب تنفيذي نظري لم يقدر له الاستمرار نتيجة تحول الثائرين إلى داخل بنية الحزب اختلافاً وصراعاً وقتالاً لم يهدأ حتى السادس عشر من تشرين الثاني ١٩٧٠، فتبدأ مرحلة بناء الدولة التي وجدت مكانها وأخذت مكانتها على الساحة العربية والدولية متحدية قوى البغي والعدوان وواقفة في وجه المشروع الصهيوني بكل قوة واقتدار.
واليوم إذا نرى حجم العدوان الغربي على سورية والوطن العربي فإنه يستعيد تلك الحركة الثائرة التي بدأها شرفاء الأمة العربية صبيحة الثامن من آذار قبل ثمانية وخمسين عاماً ليخرجوا أمتهم خارج طوق الهيمنة والسيطرة الاستعمارية، فدفعوا الثمن غالياً، وما زالوا يدفعون، لكنهم مؤمنون شديد الإيمان بأنهم منتصرون، تماماً كما انتصروا حين لم يكونوا يملكون الخبرات والمعارف والاختصاصات، لكنهم تجاوزوها بالكثير من الانتماء والتصميم والإرادة والصمود، وهم اليوم متمسكون بنهجهم ولا يأبهون لكل محاولات التشويه والتضليل، لأنهم يمتلكون الحق بأقوى صوره.
معاً على الطريق- مصطفى المقداد