الثورة أون لاين _ د. ذوالفقار علي عبود :
ترى الولايات المتحدة أن الصين تواجه معضلة مألوفة لجميع الأنظمة الاقتصادية التي تتعامل مع تهديد اقتصادي خارجي من واشنطن، وتهديد سياسي داخلي من قطاع رواد الأعمال الخاص الذي قد يهدد العقيدة الشيوعية، والمتمثل في كيفية إحكام السيطرة السياسية المركزية دون إخمادها لثقة وديناميكية قطاع الأعمال، إضافة إلى معضلة أخرى تتعلق باستعادة تايوان. حيث خلصت الرؤية الأميركية إلى أن الصين وتايوان بعيدتان الآن عن إعادة التوحيد السلمي أكثر من أي وقت مضى خلال السبعين عاماً الماضية.
كثير من منظري السياسة الخارجية الأميركية اعتقدوا أن الصين ستحرر نظامها السياسي تدريجياً، لأنها فتحت نظامها الاقتصادي وأصبحت أكثر ارتباطاً ببقية العالم، وأعربوا عن أملهم في أن تسمح هذه العملية لتايوان في النهاية بأن تصبح أكثر راحة مع شكل من أشكال إعادة التوحيد.
لكن استراتيجية الصين واضحة فيما يخص استعادة تايوان: زيادة مستوى القوة العسكرية التي يمكن أن تمارسها الصين بشكل كبير في مضيق تايوان، إلى الحد الذي تصبح فيه الولايات المتحدة غير راغبة في خوض معركة قد تخسرها،
وتعتقد الصين أنه دون دعم الولايات المتحدة، فإن تايوان إما أنها ستستسلم أو تقاتل بمفردها وتخسر، ومع ذلك فإن هذا النهج عومل أميركياً على أنه يمكن أن يصطدم بثلاثة عوامل: صعوبة العمليات العسكرية في جزيرة بحجم هولندا وتضاريس النرويج، ويبلغ عدد سكانها 25 مليون نسمة؛ والضرر الذي سيصيب الشرعية السياسية الدولية للصين والذي قد ينشأ من مثل هذا الاستخدام للقوة العسكرية؛ وعدم القدرة على التنبؤ العميق بالسياسات الداخلية للولايات المتحدة، والتي ستحدد طبيعة رد الولايات المتحدة في حالة ظهور مثل هذه الأزمة ومتى.
يعتقد الأميركيون أن السياسة الواقعية الاستراتيجية للصين مع الولايات المتحدة، تحتم عليها أن تستنتج بأن الولايات المتحدة لن تخوض أبداً حرباً لا تستطيع الفوز بها، لأن القيام بذلك سيكون بمثابة نقطة نهاية لمستقبل القوة الأميركية والهيبة والمكانة العالمية، ولكن ما لا يدرجه الأميركيون في هذا الحساب، هو الاحتمال العكسي: أن الفشل في دعم الولايات المتحدة لتايوان طوال فترة ما بعد الحرب سيكون أيضاً كارثياً لواشنطن، ولا سيما من حيث تصور حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، التي قد تستنتج أن الضمانات الأمنية الأميركية التي طالما اعتمدت عليها لا قيمة لها – ثم تسعى بعد ذلك إلى ترتيباتها الخاصة مع الصين.
أما بالنسبة لمطالبات الصين البحرية والإقليمية في شرق الصين وبحر الصين الجنوبي، فلن تتنازل الصين عن متر واحد. وستستمر بكين في احتواء جيرانها في جنوب شرق آسيا (في بحر الصين الجنوبي)، وتنافس بنشاط على عمليات حرية الملاحة، لكنها لن تصل إلى حد الاستفزاز الذي قد يؤدي إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع واشنطن، لأن الصين في هذه المرحلة تولي اهتمامها الأول لبناء اقتصادها.
في غضون ذلك، ستسعى بكين إلى إبراز إمكاناتها في مفاوضاتها الجارية مع الدول المطالبة في جنوب شرق آسيا بالاستخدام المشترك لموارد الطاقة ومصائد الأسماك في بحر الصين الجنوبي، وهنا ستستخدم الصين نفوذها الاقتصادي بالكامل على أمل تأمين حياد المنطقة في حالة وقوع حادث عسكري أو أزمة تشمل الولايات المتحدة أو حلفاءها.
وفي بحر الصين الشرقي، ستستمر الصين في زيادة ضغطها العسكري على اليابان حول جزر دياويو / سينكاكو المتنازع عليها، ولكن كما هو الحال في جنوب شرق آسيا، هنا أيضاً من غير المرجح أن تجنح بكين نحو نزاع مسلح، ولا سيما بالنظر إلى ارتباط الأمن الأميركي بضمان عدم تعرض اليابان لأي خطر مهما كان صغيراً.
تحت كل هذه الخيارات الاستراتيجية، يكمن اعتقاد الصين المنعكس في التصريحات الصينية الرسمية، بأن الولايات المتحدة تشهد تدهوراً هيكلياً ثابتاً لا رجعة فيه، ويرتكز هذا الاعتقاد الآن على مجموعة كبيرة من الأدلة: فشل الولايات المتحدة في صياغة استراتيجية وطنية للاستثمار طويل الأجل في البنية التحتية والتعليم والبحث العلمي والتكنولوجي الأساسي، فلقد أضرت إدارة ترامب بتحالفات الولايات المتحدة، وتخلت عن تحرير التجارة، وسحبت الولايات المتحدة من قيادتها للنظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وشلت القدرة الدبلوماسية الأميركية، ولقد تم جر الحزب الجمهوري نحو اليمين المتطرف، والطبقة السياسية والناخبون الأميركيون مستقطبون بشدة لدرجة أنه سيكون من الصعب على أي رئيس كسب التأييد لاستراتيجية طويلة المدى من الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) بشأن الصين، وتعتقد الصين أنه من غير المرجح أن تستعيد واشنطن مصداقيتها وثقتها كقائد إقليمي وعالمي.
وهي تراهن على أنه خلال العقد المقبل، سيأتي قادة العالم الآخرون لمشاركة هذا الرأي ويبدؤون في تعديل مواقفهم الاستراتيجية وفقاً لذلك، ويتحولون تدريجياً من التوازن مع واشنطن ضد بكين، إلى التحوط بين القوتين، ثم إلى العمل مع الصين.
في النهاية، إن قلق الصين ليس مجرد قلق من صراع عسكري محتمل، ولكن أيضاً من أي فصل اقتصادي سريع وجذري. إضافة إلى ذلك، تخشى المؤسسة الدبلوماسية الصينية من أن إدارة بايدن، التي تدرك أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة قريباً على مضاهاة القوة الصينية بمفردها، قد تشكل تحالفاً فعالاً من الدول عبر العالم الرأسمالي الديمقراطي بهدف صريح هو موازنة الصين بشكل جماعي، وعلى وجه الخصوص، يخشى قادة الصين من أن اقتراح الرئيس جو بايدن لعقد قمة للديمقراطيات الرئيسية في العالم يمثل خطوة أولى على هذا المسار، ولهذا السبب تحركت الصين بسرعة لتأمين اتفاقيات تجارية واستثمارية جديدة في آسيا وأوروبا قبل مجيء الإدارة الجديدة.
كما تعتقد الصين أنه من غير المرجح أن تستعيد واشنطن مصداقيتها وثقتها كقائد عالمي، وإدراكاً لهذا المزيج من المخاطر على المدى القريب، ونقاط القوة الصينية على المدى الطويل، فإن استراتيجية الصين الدبلوماسية العامة تجاه إدارة بايدن ستتمثل في تهدئة التوترات الفورية، وتحقيق الاستقرار في العلاقات الثنائية في أقرب وقت ممكن، والقيام بكل ما هو ممكن لمنع الأزمات الأمنية، ولهذه الغاية ستنظر بكين في إعادة فتح خطوط الاتصال العسكري رفيع المستوى مع واشنطن بشكل كامل والتي كانت مقطوعة إلى حد كبير خلال إدارة ترامب.
وقد تسعى الصين إلى عقد حوار سياسي منتظم رفيع المستوى، على الرغم من أن واشنطن لن تكون مهتمة بإعادة إنشاء الحوار الاستراتيجي والاقتصادي الأميركي الصيني، الذي كان بمثابة القناة الرئيسة بين البلدين حتى انهياره على يد ترامب، وقد تقوم بكين بتخفيف نشاطها العسكري في الفترة المباشرة المقبلة في المناطق التي يحتك فيها جيش التحرير الشعبي بشكل مباشر بالقوات الأميركية، ولا سيما في بحر الصين الجنوبي وحول تايوان – على افتراض أن إدارة بايدن ستوقف الزيارات السياسية رفيعة المستوى إلى تايبيه التي أصبحت سمة مميزة للسنة الأخيرة لإدارة ترامب، لكن بالنسبة لبكين، هذه تغييرات في التكتيكات وليس في الاستراتيجية بينما تحاول بكين تخفيف حدة التوترات على المدى القريب، سيتعين عليها أن تقرر ما إذا كانت ستستمر في اتباع استراتيجيتها نفسها تجاه أستراليا وكندا والهند، وهم حلفاء للولايات المتحدة، وقد يشتمل هذا الاتجاه على مزيج من التجميد الدبلوماسي العميق والإكراه الاقتصادي – وفي حالة الهند، المواجهة العسكرية المباشرة، وستنتظر الصين أي إشارة واضحة من واشنطن بأن جزءاً من ثمن استقرار العلاقات الأميركية الصينية سيكون نهاية لمثل هذه الإجراءات القسرية ضد شركاء الولايات المتحدة، إذا لم تكن هناك مثل هذه الإشارة وشيكة (لم يكن هناك أي إشارة في عهد الرئيس دونالد ترامب) فستستأنف بكين عملها كالمعتاد.
في غضون ذلك، ستسعى الصين للعمل مع إدارة بايدن بشأن تغير المناخ، حيث تدرك الصين أن هذا في مصلحتها، بسبب تعرض البلاد المتزايد لظواهر الطقس المتطرفة، كما أنها تدرك أن بايدن لديه فرصة لاكتساب مكانة دولية إذا تعاونت بكين مع واشنطن بشأن تغير المناخ، وهي تعلم أن بايدن سيرغب في إثبات أن مشاركته مع بكين أدت إلى تخفيضات في انبعاثات الكربون الصينية، وكما ترى الصين، فإن هذه العوامل ستمنح الصين بعض النفوذ في تعاملاتها الشاملة مع بايدن، وتأمل الصين في أن يساعد التعاون الأكبر في المناخ على استقرار العلاقات الأميركية الصينية بشكل عام، ومع ذلك من المرجح أن تكون التعديلات في السياسة الصينية على هذا المنوال تكتيكية وليست استراتيجية.