الملحق الثقافي: هفاف ميهوب:
ومن الحبِّ ما قَتل!! عبارةٌ اعتدنا على تكرارها، وفيها من الواقعية ما جعل قائلها ينطقُ بها وكأنها، وحيٌ منقوشٌ على حجر.
مرّت فرنسا بعصرٍ من عصورها المظلمة، كانت فيه شوارعها مكبّ نفاياتٍ وأوساخٍ، وكلّ ما يخلّفه الإنسان والحيوان على السواء..
بصراحة، كانت رائحتها نتنة وقاتلة، وكانت الأوبئة تعمُّ البلاد جراء تلك النتانة، إلى أن جاء من يفكّر بجعلِ رائحتها طِيباً ممزوجاً مع النسيم العليل، فكان العطر الفرنسي أرقى عطورِ العالم حتى يومنا هذا.
فكيف يمكن للعطرِ أن يكون قاتلاً، وفيه من نسائمِ الحياة ما يُنعشُ القلب والروح؟!!..
كاتبٌ بعبقرية الروائي «باتريك زوسكيند» في رائعته الخالدة «العطر»، أو «قصة قاتل»، ينمُّ عن المغزى الحقيقي لروحِ العطر المُستحضر من أرواح الزهور، فكانت فكرة استخراج عطر الأنثى من جسدها، عقب اللحظات الأولى لموتها، وهنا لابدَّ أن تكون الأنثى صبيّة عذراء بعمرِ البدر في اكتمالِ نوره.
قتلٌ يستجرُّ قتلاً للحصولِ على عطرِ الجسدِ الأنثوي، وكان عطر الألوهة القاتل.. كان عطراً قتلَ الحقدَ بين الناس، وجمع بين قلوبٍ لم يكن لأحدٍ أن يجمعها.. كان عطراً يقتل الضغائن وحبّ الانتقام والنتانات.
العطرُ القاتل قتلَ كلّ شيءٍ سيىءٍ، بعد أن قتل الجسد الجميل.. ذاك العطرُ أودى بحياةِ صانعه الذي انتهى مقتولاً به، من شدّة الحبِّ، وشدّة الطيبِ المنبعث من تلك الزجاجة التي جمعت أرواح الصبايا الجميلات، العذراوات، والتي جعلت الناس تلتهم صانع العطر الذي فقد رائحة جسده مبكِّراً، فمضى يبحث عن رائحته بين روائح أجساد الصبايا الفتيَّات.
العطرُ القاتل أخمدَ أنفاس «غرونوي» إلى الأبد، فأُكلَ بشحمه ولحمه، ولم يبقَ منه سوى بضع شعيراتٍ من جلدة رأسه، فكان القاتلُ المقتول بالعطرِ، فلا تقتربوا من عطرِ الألوهة وتلوّثوه بروائحِ المدنِ، بل اتركوه في أعالي الجبال الطاهرة.
mayhoubh@gmail.com
التاريخ: الثلاثاء6-4-2021
رقم العدد :1040