في العائلةِ الثقافيَّة

 

الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *

في الوقتِ الذي كنّا فيه، نجتمع في إحدى قاعات المؤسّسة الثقافيّة الرسميّة الرئيسة في البلد؛ لتكريم أديبٍ له تاريخه وإصداراته وحضوره في الوسط الثقافيّ، كان مطربٌ (شعبيّ)، يقدّم وصلاته في الملعب البلديّ في المدينة نفسها.. وغنيٌّ عن القول، إنّ الحضور التكريميّ يقدّر بالعشرات، مع أنّ المتحدّثين والمُداخلين حول تجربة الأديب المكرّم، من أهمّ أدباء المحافظة، والبلد ربّما؛ فيما الفضاء والمدى مفتوحان في المكانِ الآخر للصوتِ الوحيد الصدّاح، وعشرات الألوف ملؤوا مقاعد الملعب، وتزاحموا على ضفاف مضماره، واحتاج الأمر إلى قوى كبيرة من المسؤولين عن الانضباط في ذلك الحيّز.
وقد لا تكون المقارنة بين الحالين في محلّها، لولا مساوئ المصادفة! ولولا أنّ الإعلام المحلّي تفرّغ للحفل (الفنّيّ)؛ متغافلاً عن النشاط الأدبيّ، أو أنّ الإمكانيّات المتوافرة والشخصيّات المهمّة مشغولة جميعها هناك!.
كما قد لا تبدو المقارنة واردة، بين ما قُدّم للأديب؛ تكريماً لمسيرته الممتدّة عقوداً- ناهيك عن مكافآت الدارسين لنتاجه الصادر في عدد من الكتب-، وبين ما قُدّم للمطرب النشوان لحضوره ساعات معدودة؛ بتقدير وممنونيّة؛ لقبوله- بعد تذمّر- العرض الذي تضاعف مرّات شرطاً لحضوره؛ هو المطلوب المرغوب في أكثر من مكان وجهة ومناسبة!.
القضيّة التي تستدعي تناول هذا الموضوع، أنّ الأمر لا يتوقّف على هذه المصادفة؛ بل هو واقع قائم في كلّ من هذه النوعيّة من النشاطات في الحالين؛ ففي كثيرٍ من فعاليّاتنا الأدبيّة خاصّة- والثقافيّة عموماً-، إن لم نقل غالبيّتها، ليست نسبة الحضور كبيرة، ونقول في محاولة لستر الحال ومواساة النفس: “إنّ الكرام قليل”!. دون أن يعني هذا القول، ما قد يحمل من ظنّ آثم؛ بأنّ الذين يحضرون النشاط الآخر، أو الذين لا يحضرون البتّة، ليسوا كراماً! لكنّه تعزية وتسويغ للاستمرار في العمل الثقافيّ، الذي لا يوصف عادة بأنّه جماهيريّ؛ من دون إغفال نشاطاتٍ أخرى، تأخذ طابعاً ثقافيّاً، يراد لها رسميّاً وبرغباتٍ صارمة، أن تكون حاشدة، فيتمّ الإعداد لها بأساليب غير ثقافيّة! ومن دون أن نظلم بعض النشاطات الثقافيّة الحقيقيّة، التي يتزاحم فيها الناس عن طيبِ خاطرٍ للحضور والمشاركة والاستمتاع.. لكنّها من دون شكّ نادرة، ولا يقاس عليها، ولا تمنعنا من التفكير في هذه المفارقة/المعضلة، التي تقترب من الطامّة الكبرى! وهي لا تتعلّق ببلد عربيٍّ بعينه وزمن محدّد؛ بل تكاد تكون عامّة.
صحيح أنّ الأمر، يستدعي مراجعة حقيقيّة ودائمة لِما نقدّمه في عملنا الثقافيّ؛ للتقييم والسعي لتلافي الثغرات والنواقص، التي قد تكون في مقدّمي النشاط، أو مادّته، أو موعده، أو الداعين إلى الفعاليّة، أو الإعلام والإعلان عنه؛ كما يجب أن نستعرض الإيجابيّات والجدوى، ونعزّز ما يستدعي الجمهور الفعّال من نفسه بلا إلحاح أو إكراه؛ من دون أن يؤثّر على جودة المادّة وقيمتها، ومن دون الرضوخ إلى المقولة المشهورة “الجمهور عاوز كده”، ومن المهمّ أن نعوّد الجمهور على مستوى آخر ونوعيّة أخرى، وأن نحرص على تقديمها بشكل جذّاب وممتع.
واستطراداً في المقارنة المأساويّة بين أفراد العائلة الثقافيّة الواحدة، نستذكر حال الأدباء بالنسبة إلى حال الفنّانين الآخرين، المنتمين إلى فروع أخرى من ضروب العمل الفنّيّ، الذي استشرى في العصر الحديث، مع مضاعفة الاهتمام بحضور الصورة وتأثيرها، والتقنيّات الحديثة المتسارعة لاستهلاك المتلقّي أنّى كان، وحيثما ذهب؛ مختاراً، أو منصاعاً، بقدرة، تقلّ باطّراد، على المقاومة أو الهروب إلى النفس والتأمّل.
فقد يعيش الأديب جلّ حياته ساعياً متلهّفاً إلى نشر نصوصه وكتبه، من دون أن يفكّر ربّما بالمردود، الذي يمكن أن يساعده على ممارسة العيش الكريم في أدنى مستوى؛ ومنهم من يكاد يكون مستجدياً دار النشر هذه، أو الدوريّة الثقافيّة تلك، أو يقترض، أو يستدين؛ لنشر بضع مئات من نسخ كتاب، ذوّب فيه مشاعره وأحاسيسه وأفكاره؛ ويبقى بعيداً عن الإعلام- باستثناءاتٍ ليست وافرة- إلّا إذا شاء الإعلام تزجية وقت، أو طلب موقفٍ مساندٍ ورأي موالٍ، أو أداء واجب في برامج ثقافيّة مغمورة الإعلان والمدّة ومواعيد البثّ؛ من دون الاستغفال عن أنّ هناك كتّاباً، لا يستحقّون مسمّى أديب، وآخرين ركبوا الموجة، واستفادوا من مسؤوليّاتٍ وعلاقاتٍ وانتماءات ومواقف؛ ليظهروا ويتصدّروا المشهد الأدبيّ هنا أو هناك.
وقد يكون لكتّاب المسلسلات والأفلام حضور، لا يزيد أقرانهم الآخرين إلّا قليلاً؛ حيث تذكر أسماؤهم بخطّ عاديّ كأيّ عامل ديكور، أو مصفّف شعر، أو مساعد تصوير في المسلسل، أوّل الشارة، فيما الخطوط الملوّنة، والصور، والمشاهد، واللقاءات المطوّلة المرافقة واللاحقة لعرض العمل، للمخرج ونجومه! ويحظى الممثّلون والممثّلات، مهما كانت أدوارهم، باهتمام واحترام، ومتابعة إعلاميّة وجماهيريّة.. ناهيك عن الألقاب المستمدّة ممّا يشعّ، ويتلألأ في السماء! ويكون الأديب محظوظاً، إذا ما تحوّل نصّه إلى دراما، عن طريق كاتب آخر مختصّ، تذهب الشهرة والحظوة المادّيّة والإعلاميّة إليه، وهذا يقودنا إلى أمرٍ ينبغي التفكير فيه؛ فقد كان كثير من الأعمال الفنّيّة، يؤخذ عن نصوص أدبيّة منشورة لأدباء معروفين عربيّاً وعالميّاً؛ وكانت لتلك الأعمال شهرة ومكانة وتقدير؛ أمّا الآن فمن النادر أن يحدث هذا؛ فقد صار للدراما كتّابها، الذين يعرفون ما يريده المنتجون والسوق والموسم والمشاهدون، وقد يحدث أن يُبدأ بتصوير العمل وعرضه، قبل أن ينتهي الكاتب من الكتابة، والمخرج والممثّلون لا يزالون منشغلين بتصوير المشاهد؛ لمماشاة السوق! وغنيّ عن القول إنّ هذا يختلف عن عملٍ مقروءٍ ومختار ومحضَّر بأناة، ومهتمّ بجوانبه كلّها، ما قد يؤثّر على قيمة العمل وجودته.
وفي الوقت الذي قد تُعاد فيه طباعة كتب بنسبة قليلة، ويطلب من الأدباء ألّا يكرّروا نصوصهم وموادّهم في النشاطات، وأجرهم يكاد لا يعادل كلفة الوصول والعودة؛ فإنّ العمل الفنّيّ، يمكن أن يُعرض مرّات ومرّات؛ بصرف النظر عن مضمونه، ومدى تأثيره في الجمهور، الذي يحبّ الفرجة؛ كما أنّ المطرب من أيّ درجة، يعيد أغنياته مرّات ومرّات.. وكثيراً ما تحمل عروض فنّيّة إسفافاً في الواقعيّة، والألفاظ السوقيّة، والممارسات الفوضويّة، والثرثرات المجّانيّة؛ ناهيك عن العواطف الممجوجة، والجرائم المفتعلة، والمواقف المبتذلة؛ كما قد تكون كلمات الأغاني بهذا المستوى، ولا يرقى الأداء إلى مستوى ما يليق؛ أمّا الأجر، فيليق وأكثر، ويرقى إلى أرقام فلكيّة وبعملات أجنبيّة!.
فيما لا يسمع بصدور نصّ أدبيّ جادّ مطبوع سوى قليل، ومن يقتنيه أو يقرؤه أقلّ..
هذا الكلام لا يقلّل من أهمّيّة الأعمال الثقافيّة الأخرى غير الأدبيّة؛ ولا سيّما الفنّيّة منها على اختلاف ميادينها، واحترام مواهب العاملين فيها، والدور الذي تقوم، ويمكن؛ بل يجب أن تقوم به؛ قياساً بما تتطلّبه من مشاركات وجهود؛ بل يشير إلى جانب مهمّ من الثقافة- الأدبيّة- في واقعنا العربيّ، لا يحظى الجادّون في مداراته الشاقّة الشائقة، سوى بنسبة ضئيلة من الأضواء والاهتمام المادّي والمعنويّ، ويضحّي فيه جنود مجهولون إلّا قليلاً، من أجل قيمة الحياة الإنسانيّة وسموّها.
* كاتب وشاعر وقاص

التاريخ: الثلاثاء13-4-2021

رقم العدد :1041

 

آخر الأخبار
New York Times: إيران هُزمت في سوريا "الجزيرة": نظام الأسد الفاسد.. استخدم إنتاج الكبتاجون لجمع الأموال Anti war: سوريا بحاجة للقمح والوقود.. والعقوبات عائق The national interest: بعد سقوط الأسد.. إعادة نظر بالعقوبات على سوريا بلدية "ضاحية 8 آذار" تستمع لمطالب المواطنين "صحافة بلا قيود".. ندوة لإعداد صحفي المستقبل "الغارديان": بعد رحيل الديكتاتور.. السوريون المنفيون يأملون بمستقبل واعد باحث اقتصادي لـ"الثورة": إلغاء الجمرك ينشط حركة التجارة مساعدات إغاثية لأهالي دمشق من الهلال التركي.. السفير كوراوغلو: سندعم جارتنا سوريا خطوات في "العربية لصناعة الإسمنت" بحلب للعمل بكامل طاقته الإنتاجية الشرع والشيباني يستقبلان في قصر الشعب بدمشق وزير الخارجية البحريني عقاري حلب يباشر تقديم خدماته   ويشغل ١٢ صرافا آلياً في المدينة مسافرون من مطار دمشق الدولي لـ"الثورة": المعاملة جيدة والإجراءات ميسرة تحسن في الخدمات بحي الورود بدمشق.. و"النظافة" تكثف عمليات الترحيل الراضي للثورة: جاهزية فنية ولوجستية كاملة في مطار دمشق الدولي مدير أعلاف القنيطرة لـ"الثورة": دورة علفية إسعافية بمقنن مدعوم التكاتف للنهوض بالوطن.. في بيان لأبناء دير الزور بجديدة عرطوز وغرفة العمليات تثمِّن المبادرة مباركة الدكتور محمد راتب النابلسي والوفد المرافق له للقائد أحمد الشرع بمناسبة انتصار الثورة السورية معتقل محرر من سجون النظام البائد لـ"الثورة": متطوعو الهلال الأحمر في درعا قدموا لي كل الرعاية الصحية وفد من "إدارة العمليات" يلتقي وجهاء مدينة الشيخ مسكين بدرعا