الملحق الثقافي:د. عدنان عويّد *
يظلُّ مفهوم المثقف إشكاليّاً، في طبيعته وسماته وخصائصه، والدور المنوط به تاريخيّاً كحاملٍ للمعرفة، وممارس لها في هذه الحياة، كقوَّةٍ ليس لها حدود، إلا حدود قيم المثقف ذاته، ومدى ارتباطه بالإنسان وقضاياه المصيريّة. والمثقف في سياقه العام، هو من امتلك المعرفة وتعامل معها عقلانيّاً، واستطاع تحويلها إلى قوة ماديّة فاعلة ومؤثرة، في مسيرة حياته وحياة مجتمعه الماديّة والفكريّة معاً، ونتائج التأثير هنا، غالباً ما تحدِّد طبيعتها وأهدافها المصالح الماديّة والمعنويّة، المعبِّرة عن واقع وطموحات الحوامل الاجتماعيّة لهذه المعرفة، أي المثقف، أو من تعبِّر عنهم هذه الحوامل في مرحلة تاريخية محددّة.
على هذا الأساس، لا يمكننا أن نقدّم أنموذجاً واحداً للمثقف، فالمثقف يتوزَّع عمليّاً وفكريّاً وفقاً للنسق الفكري الذي يشتغل عليه، وتبعاً للوظيفة الاجتماعيّة أو الإداريّة أو السياسيّة التي يتبع لها، وبالتالي هناك مثقف متعلم، وهناك مثقف يشتغل على النسق المعرفي الديني، وهناك مثقف يعمل لخدمة سلطة حاكمة، بغضِّ النظر عن التوجّهات الأيديولوجيّة التي يعمل معها، وهناك مثقف مرتزق يبيع حبره وقلمه لمن يدفع له، بغضِّ النظر عن توجَّهات الدافع أو المموِّل، حتى ولو كان المستعمر.
على هذا الأساس، يأتي دور المثقف العضوي في تنمية الثقافة التنويريّة العقلانيّة، وتأصيلها في عقول المواطنين الذين ينتمي إليهم طبقيّاً، وخاصة القوى الاجتماعيّة المضطهدة والمغرَّبة والمستلبة.
نعم، هو دور المثقف العضوي، المثقف الملتزم سياسيّاً وتنظيميّاً، بقوى اجتماعيّة محددة، غالباً ما تكون قوى الشعب العاملة، التي يجمعها تنظيم سياسي، له مواقفه الفكريّة أو منطلقاته النظريّة، التي تعبِّر عن بنيته الطبقيّة وطموحاتها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.
والمثقف العضوي، يمتاز إضافة إلى سعة ثقافته وتنوعها، والتزامه الأخلاقي أو القيمي، بما يحمل من رؤى ثقافيّة، بحيويّته وعمله الدؤوب على نشرها، بين أفراد تنظيمه الحزبي من جهة، والمجتمع الذي ينشط فيه هذا الحزب أو يقوده من جهة ثانية، بغية الارتقاء بواقعهم وتجاوز تخلفهم.
إذن، هو مثقف مسيَّس بالضرورة، أي مثقف ينتمي لتنظيمٍ حزبي وأيديولوجيا محدَّدة، تعبِّر عن طموحاتِ قوى طبقيّة غالباً ما تكون مسحوقة ومضطهدة ومستلبة، كما أشرنا في موقعٍ سابق. ونشاطه وفق هذا المنطلق، يميل أو يتَّجه وفقاً لطبيعة المرحلة التاريخيّة التي يمر بها المجتمع، ودور ومكانة وفاعلية تنظيمه السياسي، إن كان هذا التنظيم في السلطة أم خارجها.
هذا «المثقف» يظلُّ يواجه، في سياق نشاطه ومواقفه الفكريّة والعمليّة، إشكاليات من داخل تنظيمه أو من خارجه معاً.
على مستوى التنظيم الداخلي، تكمن إشكالياته مع الكثير من عناصر تنظيمه، وخاصة إذا كان هذا التنظيم، ذا صفةٍ شعبويّة تغلب في بنيته التنظيميّة القيادات النخبويّة على حساب الطليعيّة، فالعناصر المثقفة «الطليعيّة» في هذا التنظيم، غالباً ما تكون قليلة، لذلك يقع هذا المثقف، تحت أنظار الآخرين في التنظيم الذي ينتمي إليه، فيكون الأكثر نقداً من قبلهم، لا لكونه يخطئ أو يصيب أثناء ممارسته النشاط الثقافي داخل التنظيم، بل كون من يعمل على انتقادهم، أقل ثقافة منه، وربما لعدم قدرتهم على إدراك دلالات ما يقوله، أو أن بعضهم يشعر أنه منافس له، ولا نغالي إذا قلنا، غالباً ما يُتّههم هذا المثقف من قبل عناصر تنظيمه بالانحراف الفكري، وحتى بالكفر والزندقة والمروق على الدين، إذا تجرَّأ وتكلَّم بعلمانيّة التنظيم الذي ينتمي إليه، أو إذا أبدى عقلانيّة أفكار ومبادئ حزبه، والمسألة الأكثر خطورة في هذا الاتجاه، تأتي إذا كان الحزب الذي ينتمي إليه هذا المثقف، قد وصل إلى السلطة وأخذت تنخره الانتهازيّة من الداخل، ففي مثل هذه الحالة، غالباً ما يشتدُّ عليه الحصار ويُعمل على تهميشه أو إقصائه.
أما على مستوى الخارج، أي خارج تنظيمه، فيجد المثقف العضوي، الكثير من المعاناة خارج محيطه الاجتماعي الذي ينشط فيه أيضاً، وهذه المعاناة غالباً ما تكون من الذين يختلف معهم في الرؤيّة والمنهج أولاً، ومن ثمَّ قبل أشباه المثقفين، وخاصة المهاترين منهم، فيأتي توصيف هؤلاء له شبيهاً بتوصيفِ أعدائه من داخل تنظيمه نفسه، أو متكئاً عليه، وما يزيد الطين بلّة، وقوعه بين مطرقة العناصر الجاهلة والانتهازيّة في تنظيمه، وسنديان أعداء التنظيم في المجتمع الذي ينشط فيه، فيضاف إلى توصيفه السابق الذي وصف به من قبل عناصر تنظيمه «الأخوة الأعداء» في مثل هذه الوضعيّة، على أنه مثقف سلطة، وانتهازي، ومرتزق… الخ .
الملفت للنظر، وتحت ما يعانيه هذا المثقف من ضغوطٍ، أنه يضَّطر إلى ترك التنظيم، وفي حال تركه، إما أن يذهب إلى تنظيمٍ آخر، وغالباً لا يجد فيه ضآلته المنشودة، أو أن يتحوَّل إلى مثقفٍ تبشيري / رسولي، وهو هنا يترك تنظيمه السياسي، ويتفرَّغ كليَّاً لقضايا الفكر والثقافة، منطلقاً في توجهاته وسلوكياته، من منطلقٍ أخلاقي يقرُّ بأن المعرفة سلاحٌ يجب أن يكون له وظيفته في هذه الحياة، من أجل تقدم الإنسان عموماً، وتحقيق سعادته، وتخليصه من أوهامه، وضياعه، واستلابه، وتشيّئه، واستبداده، والقهر الذي مورس عليه ولم يزل.
هذه هي بعض معاناة المثقف العضوي، الذي يعمل في مجتمعات العالم الثالث، هذه المجتمعات التي أكثر ما يُهمل فيها، المثقف والثقافة معاً.
* كاتب وباحث من سورية
d.owaid333d@gmail.com
التاريخ: الثلاثاء13-4-2021
رقم العدد :1041