الثورة أون لاين – فؤاد الوادي:
تغمرنا ذاكرة الجلاء بامتدادها الآسر، وإرثها الكبير، وتراكميتها الزاخرة بالنضالات والتضحيات والتجارب المفعمة بالبطولات والانتصارات ودروس التاريخ العظيمة التي لا تزال حتى اللحظة تضفي على الإنسان والمكان والوجدان المزيد من الشموخ والإباء والعنفوان.
في التوقيت الذي يستمد أهميته من حساسية ومفصلية اللحظة التاريخية واستثنائيتها، حيث الوطن يقبع وسط غابة من الوحوش والأعداء والمتصيدين والمتآمرين، فإننا كسوريين قد نكون في أمس الحاجة لاستحضار الجلاء بحضوره التاريخي والمعنوي، حيث العدو بأوجهه وأشكاله الاستعمارية المتعددة لا يزال يجهد ويستشرس ليضع يديه على هذه الأرض الطاهرة بشعبها العريق وجيشها المغوار وتاريخها الوضاء.
مسيرة نضال مضمخة بالدماء والفداء..
محطات نضالية عديدة مرت على الشعب السوري حتى نال استقلاله في العام 1946، محطات، كانت مضمخة ومعمدة بالدماء والفداء والتضحية بلا حدود، المحطة الأولى كانت عندما تم في 8 آذار عام 1920 إعلان سورية (مملكة عربية مستقلة) بموجب قرار تشريعي صادر عن مجلس (المؤتمر السوري)، لكن المجلس الأعلى للحلفاء لم يرض الاعتراف بهذه الدولة الوطنية الشابة بتأثير من الحكومة الفرنسية وكانت النتيجة القضاء على هذه الدولة العربية الشابة في يوم ميسلون في الرابع والعشرين من تموز 1920 بعد معركة غير متكافئة استشهد فيها وزير الحربية البطل يوسف العظمة.
بعد ذلك بدأت مرحلة جديدة من النضال والكفاح ضد المستعمر الفرنسي كانت ذروتها بين عامي 1925 و1927 اضطر على إثرها المفوض السامي الفرنسي (بونسو) للإعلان بأن الحكومة الفرنسية لا تعارض طلب الاستقلال إذا ارتأى الشعب السوري ذلك، وللوصول إلى هذا المطلب كانت الدعوة إلى انتخابات تأسيسية لوضع نص (الدستور السوري) وقد جرت هذه الانتخابات بالفعل وأوصلت إلى الجمعية التأسيسية مجموعة من الزعماء الوطنيين أمثال هاشم الأتاسي وإبراهيم هنانو وشكري القوتلي الذين شكلوا ما يسمى (الكتلة الوطنية) وقد صاغ أعضاء (الجمعية التأسيسية) الدستور السوري عام 1928 في 115 مادة، ولم يترك الدستور أي دور لسلطات الانتداب الفرنسية ممثلة بالمفوض السامي الذي يقيم في بيروت، والمندوب السامي في دمشق، الأمر الذي دفعه إلى تجميد مشروع الدستور، حتى 22 آب سنة 1930 حيث أصدره بعد إضافة مادة تحت رقم 116 له، وهي تربط مزاولة النشاطات السيادية بموافقة المفوض السامي عليها قبل إنفاذها، وهو ما جعل من السيادة السورية منقوصة، لكن ذلك لم يمنع السوريين من إجراء انتخابات نيابية قادت إلى اجتماع برلمان وطني انتخب أعضاؤه السيد محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية السورية في عام 1932.
رضوخ المحتل الفرنسي..
العام 1936 كان حافلا بالحراك الشعبي المندد والرافض للاحتلال حيث عمت المظاهرات و الإضرابات جميع المدن السورية واستمرت زهاء ستين يوماً وهو ما عرف بـ (الاضراب الستيني) الذي رضخت الحكومة الفرنسية على إثره لطلب الاستقلال، ولكنها ربطت ذلك بوجوب توقيع معاهدة بين الطرفين، وبالفعل ذهب وفد سوري رسمي يمثل سورية بزعامة كل من هاشم الأتاسي وفارس النوري وسعد الله الجابري إلى باريس، وفاوض الحكومة الفرنسية هناك، وانتهت المفاوضات إلى توقيع المعاهدة الفرنسية – السورية بتاريخ 9 أيلول 1936 التي تعترف فيها فرنسا بسورية كأمة مستقلة، واستناداً لهذه المعاهدة بدأت الحكومة السورية بممارسة أعمالها السيادية فدعت إلى انتخابات نيابية جديدة قادت إلى انتخابات مجلس حر ومستقل انتخب السيد هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية السورية الجديدة المفروض أنها قد استقلت استقلالاً كاملاً، لكن الأوضاع الدولية كانت قد تأزمت، وبدأت تلوح في الأفق نذر حرب عالمية جديدة في أوروبا، دفعت بصناع القرار الفرنسي إلى اعتبار دول المشرق (أي سورية ولبنان) قواعد استراتيجية هامة لحماية الطريق إلى المستعمرات الفرنسية في الهند الصينية ولهذا ضغطوا على أعضاء (الجمعية الوطنية) الفرنسية لكي لا يصدقوا على نص المعاهدة، وقامت الحكومة الفرنسية بتبني ذلك عبر تعيين موظف أمني كبير هو (غابرييل بيو) كمفوض سام لفرنسا على سورية ولبنان، وقام فور وصوله بإلغاء جميع الأوامر والتشريعات التي صدرت عن الحكومة السورية كدولة مستقلة كاملة السيادة بين 1936 و1939 ما أدى لاستقالة رئيس الجمهوية السيد هاشم الأتاسي، وتبعه رئيس الحكومة في تقديم استقالته، ولم يكترث المفوض السامي الفرنسي الجديد بذلك، بل إنه عمد إلى تصعيد الموقف بحل البرلمان، وحاول تشكيل حكومة سورية جديدة بدلاً من المستقيلة ولكن لم يستجب أي من الزعماء السياسيين للأمر ما جعله- أي المفوض السامي- يكلف حكومة مؤقتة من مديري الوزارات بتسيير الأمور مؤقتاً ودام ذلك حتى إقالة (بيو) وتعيين الجنرال(دنتز) مفوضاً سامياً جديداً على سورية ولبنان، حيث استدعي هذا فور وصوله إلى سورية السيد خالد العظم وكلفه بممارسة مهام كل من (رئيس الدولة) و(رئيس الحكومة) في سورية بانتظار نهاية الحرب.
الاستقلال كان مطلب السوريين ..
العام 1941 كان حافلا بالتطورات الدولية حيث احتل الألمان القسم الأكبر من فرنسا، ما أدى إلى قيام حكومة (بيتان) المتعاونة مع الألمان، والتي اختارت مدينة(فيشي) مقراً لها، وقد بعثت سلطات الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان حكومة الفيشيين ولكن الفرنسيين الأحرار بزعامة الجنرال ديغول لم يرضخوا لهذا الخضوع، بل انضموا للقوات البريطانية في الشرق، التي كانت تتمركز في مصر وفلسطين والعراق، وفي صباح اليوم الثامن من حزيران 1941 تقدمت باتجاه الأراضي السورية واللبنانية قوات حليفة ضخمة، يقودها الجنرال الإنكليزي (ويلسون) الإنجليزي، ويعاونه الجنرال الفرنسي (كاترو) الفرنسي، وقد ألقت الطائرات الحليفة المرافقة لهذه القوات فوق المدن السورية واللبنانية الكبرى آلاف المنشورات التي تحمل توقيع الجنرال كاترو وبتفويض من الجنرال ديغول قائد الفرنسيين الأحرار وتضمنت هذه المنشورات اعتراف الجنرال كاترو بأنه دخل مع قواته أراضي هذين البلدين لإيصالهما إلى ممارسة الاستقلال الفعلي في أقرب الآجال.
وبعد انتصار القوات الحليفة في سورية ولبنان أتى الجنرال ديغول قائد قوات فرنسا الحرة إلى دمشق ولبنان وألقى خطاباً سياسياً في الجامعة السورية يوم 29 تموز 1941 اعترف فيه صراحة بوجوب (إنهاء الانتداب) ولكنه لم يتلفظ بكلمة (استقلال) أو بكلمة (سيادة) ما جعل الزعماء الوطنيين السوريين يتحفظون على مضمون الخطاب.
خروج المحتل واستقلال سورية ..
بعد وفاة رئيس الدولة السورية الشيخ تاج الدين الحسني يوم 17 كانون الثاني 1943 جرت انتخابات عامة في 7 تموز من ذات العام حيث انتخب المجلس النيابي الجديد يوم 17 آب 1943 السيد فارس الخوري رئيساً له، كما انتخب السيد شكري القوتلي رئيساً للجمهورية السورية، وتوصلت الحكومة التي شكلها سعد الله الجابري بتاريخ 19آب من العام نفسه إلى توقيع اتفاقية مع المفوض السامي الفرنسي لنقل جميع الدوائر التي ما زالت بيد سلطات الانتداب إلى مسؤولية الحكومة السورية.إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار المظاهرات والاضرابات والصدامات مع جنود الاحتلال الفرنسي التي بلغت أوجها في العام 1945، العام الذي كان فاصلا لوضع الأمور في نصابها الصحيح على طريق الاستقلال الحقيقي من المستعمر الفرنسي، ولعل مجزرة البرلمان التي ارتكبتها قوات الاستعمار الفرنسي في 29 أيار 1945 كانت الحدث الأبرز الذي أدى إلى يقظة المشاعر الوطنية بشكل كبير وجارف في نفوس جميع السوريين الذين ثاروا على المستعمر الفرنسي في كل المحافظات والمدن مضحين بالغالي والنفيس كرمى لعيون هذا الوطن، وفي 4 آذار 1946 صدر بلاغ فرنسي- بريطاني مشترك خلاصته أن الحكومتين الفرنسية والبريطانية اتفقتا على الجلاء معاً عن سورية قبل 30 نيسان 1946، وقد بدأت قوات الاستعمار الفرنسي بالجلاء منذ ذلك التاريخ، وانسحب آخر جندي فرنسي من سورية بتاريخ 15 نيسان 1946 واحتفلت الدولة السورية بالجلاء بعد يومين أي في 17 نيسان وقد تم اعتبار هذا اليوم عيدا وطنيا لسورية منذ ذلك التاريخ.