لا يمكن تغيير ثقافة سائدة في أي مجتمع دون الحفر في أساسيات التفكير والتشكل الأول للمعرفة، وما استزرع في العقل ليشكل نواة المعرفة ومصنعها ومنتجها، وقد شكلت الفلسفة اليونانية الحسم الصلب لذلك النمط من التفكير الذي شكل المداميك الأولى لتحرير العقل البشري من سطوة الأسطورة والتفكير الغيبي، حيث كانت البشرية قبل الفلاسفةاليونان تعيش عالم الأسطورة والغيب وجاءت الفلسفة اليونانية لتنقل الشعوب من الفكر الأسطوري إلى العقلانية من خلال قراءة الطبيعة والكون والإنسان، وقام بذلك السفسطائيون معلمو الفلسفة أو معلمو الحكمة حول أصل الكون والطبيعة والخلق وبدؤوا بدراسة الإنسان والمجتمع، وأن الخير والشر نسبيان وكل مجتمع يحدد القيم حسب ظروفه وحاجاته ومستوى وعيه، وسقراط لم يكتب حرفاً واحداً وكان يتجول بين المجتمع والناس ويناقشهم ويحاورهم حتى شكل جدلاً في المجتمع، ما يجعل الإنسان يصل للحقائق بنفسه أي عبر التفكير العقلي والسعادة تأتي عبر فعل الخير والتعاسة عبر فعل الشر، وأن العقل البشري لديه القدرة على التمييز بين الصح والخطأ والخير والشر.
فاتهم سقراط من السلطة بأنه يريد تخريب عقول الناس فحكم عليه بالإعدام ولكنه تجرع السم بين أصدقائه وتوفي وقضى في سبيل توعية الناس والمجتمع، وبذلك مهد سقراط الطريق للعقلانية التي سار عليها تلميذه أفلاطون الذي دون أفكار أستاذه سقراط وهو الذي يرى أن في العالم مستويين أو شكلين: واقعي ومثالي، عالم محسوس وآخر مجرد وأن هناك عالمين حسي ندركه بالحواس ومثالي نتصوره بالعقل، مثلاً نحن نرى الفيل نرسم عنه صورة فيصبح أي فيل هو فيل حتى لو كان قد قطعت خرطومه أو رجله فهو في مخيلتنا صورة واحدة، ولكن في الحاسة هناك اختلاف بين الفيلة فالعالم الحسي متغير بينما المثالي هو كامل أو نموذجي.
فالعقل هو الوحيد الذي ينتمي إلى عالم الأفكار، وعلى هذا انتقد أرسطو تلميذه أفلاطون واعتبره مثالياً جداً وأنه دار ظهره للواقع فدخل أرسطو في عالم الواقعية بتفاصيله الدقيقة وابتعد عن الميتافيزيقا فعمل وكأنه عالم أحياء دقيقة، ويرى أن عالم الإنسان هو عالم الحواس فقط وليس ثمة عالم آخر مثالي، وقسم العالم إلى عالم أحياء تتطور وعالم جماد له سمة الثبات، وقسم الأحياء إلى كائنات نباتية والنباتات الحية، وقسم الكائنات الحية إلى حيوانات وإنسان، وأن هناك علة غائية وراء كل موجود أو كائن فالمطر له علة تنمية النبات والنبات يغذي الحيوانات التي بدورها تغذي الإنسان وأن هناك غاية أولى هي مصدر كل هذه التحولات، وهي الله المبدأ الأول للوجود فأرسطو حول المنطق إلى علم له قواعده وضوابطه مقدمات ونتائج كل إنسان فان سقراط إنسان سقراط فان، فالفلاسفة اليونان جعلوا من الإنسان مركز المعرفة والكون وأن المتعة هي متعة المعرفة والمعرفة هي طريق الحرية وتحرير الإنسان من كل أشكال القيود، ونقلوا العالم من الفكر الأسطوري العقلي إلى الفكر العقلاني الفلسفي التجريبي الذي طور الحياة وانتقل بالإنسان عبر التفكير إلى ما هو عليه اليوم من إنتاج حضاري وعلمي وثقافي وفلسفي عبر أعمال العقل كأساس وحقل معرفي.
إضاءات-د. خلف المفتاح