الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:
يُعتبر مصطلح الليبرالية من المصطلحات التي تعتمد على استراتيجية ذات طموح، تهدف من خلاله دولة ما، إلى جعل أكبر عدد ممكن من البلدان على شاكلتها، في الوقت الذي تسعى فيه للظهور، كدولة تعزّز الاقتصاد الدولي، والبناء المؤسّساتي، وهي تفترض أن عليها ألا تشنّ حروباً بين بعضها بعضاً، ذلك أنها غالباً ما ترفع شعار الديمقراطية، وتدَّعي أن أهدافها، نشر وتعزيز السلام العالمي..
هذا ما تبدو عليه الليبرالية، ويبيّن كُثر من الأساتذة والباحثين، بأن حقيقتها في الواقع مختلفة تماماً، ومن هؤلاء الباحثين “جون ميرشايمر” أحد أهم أساتذة العلاقات الدولية في جامعة شيكاغو، والذي اعتبرَ بأن كلّ شعارات الليبرالية كاذبة، وبأنها فاشلة ومدمّرة في تصوراتها.. ذلك أن وجود قوة أو قوتين مهيمنتين على الأرض، لابدّ أن يدفع كلّ واحدة منهما، للسعي من أجل الحفاظ على مكانتها وطموحاتها وسلطتها، وهي بذلك أبداً لن تحقق أهدافها، بل سيكون إخفاقها أمراً حتميّاً، ومكلفاً أكثر مما تتصوّر، فقد تكون الكلفة، خوض الدول الليبرالية حروباً لانهاية لها، ما يفاقم الصراع الدولي للسياسات، وأزمات الانتشار النووي، والإرهاب…
أحلام الليبرالية المستحيلة
نعم، هي أحلام مستحيلة. هكذا أطلق عليها “ميرشايمر” مشيراً إلى أنه “الوهم العظيم”. وهمُ الليبرالية التي رأى أن كلّ فردٍ فيها، يطالب بالحقوق نفسها “بغضّ النظر عن البلد الذي يطلق عليه وطناً”، فهي لا تتعامل مع الحقوق باعتبارها أصيلة، ولا تهتم بالأغلبية حول العالم، ولا حتى بحقوق أفراد البلدان الأخرى.. هي تهتمّ فقط، بمواطنيّ بلدها، وتغالي في ترويجها للحقوق الفردية، بل وتفترض:
“إن الأفراد الذين يشكّلون أيّ مجتمع، قد تنشب فيما بينهم خلافات حول ما يشكّل الحياة الصالحة، ما يؤدي إلى سعيهم لقتلِ بعضهم بعضاً. لذا، فالدولة مهمّة للحفاظ على السلام. لكن، ولأنه لا توجد في العالم تلك الدولة التي تسعى إلى منع غيرها من إثارة المتاعب، فإن دور الليبرالية التي تُمارس على السياسة الدولية، هو التدخل من أجلِ نشر السلام..”.
إنه ما اكتشفه “ميرشايمر” على مدى بحثه واهتمامه بالعلاقات الدولية، وبُنى الأنظمة والأسس التي تقوم عليها، ليجد بأن من واجبه تقديم حقائق كانت حجّته في إيرادها، تشكّل العالم عن طريقِ الواقعية والقومية، لا بالليبرالية..
يقترح هنا، ضرورة فهم العلاقة بين الليبراليّة والقوميّة والواقعيّة، فإن تعارضت القومية مع الليبرالية، فإن القومية تنتصر دوماً، وبكلِّ الأحوال الليبرالية ليست واقعية تؤمن بوجود دولة عالمية، يمكنها إبقاء الدول في حالة سلام، بل هي تعتبر كلّ نقطة في العالم، مكاناً محتملاً لحربٍ تشرف عليها، بدعوى الحفاظ على حقوق الإنسان.. هي أيضاً، لا تمتلك فهماً لمعنى القومية لدى الشعوب التي سعت لنشر الليبرالية فيها، بل تتنافى سياستها التي تفرض التدخّل في السياسات الداخلية للدول الأخرى، مع ما تشدّد عليه القومية، من حقّ تقرير المصير.
إنها السياسة الأميركية، التي انتهجت ومنذ انتهاء الحرب الباردة، المنظور الليبرالي في توجّهاتها، دون النظر إلى توازنات القوى الدولية، والهويّة القوميّة التي تحكم بعض الدول، وهو ما يؤدي – حسب رأيه- إلى فشلِ هذه السياسة، مع التكاليف الباهظة التي تزيد من اشتعالِ الصراعاتِ والحروب في العالم، مثلما من فشل تحقيق أيّ سلامٍ عالمي.
اعتناق أميركا للهيمنة الليبرالية
هذا ما دلَّ عليه “ميرشايمر”.. حقيقة السياسة الأميركية المعاصرة، وسعيها للبروز أمام العالم كبلدٍ ليبرالي، هو الأقوى في النظام العالمي، وهيمنتها الليبرالية بكلّ ما تهدف إليه ولا يشكّل خطراً على العالم فقط، وإنما عليها أيضاً.
لقد اعتنقت الهيمنة وجعلتها هدفها، وسعت إلى تحويلِ أكبر عدد من الدول، إلى ديمقراطيات ليبرالية مثلها.. لكن، سرعان ما انكشف وجهها الحقيقي، ذاك الذي قال عن طغيان قادته:
“ ربّما لا يوجد رئيس أميركي، اعتنق نشر الليبرالية بشكلّ حماسيّ، أكثر من “جورج بوش الابن”، الذي قال في خطابٍ ألقاه، قبل أسبوعين من غزو العراق: سيظهر العراق محرّراً، قوّة الحريّة وقدرتها على تغيير هذه المنطقة الحيويّة، تبثّ الأمل والتقدّم في حياة الملايين.. إن مصالح أميركا في تحقيق الأمن، وإيمانها بالحريّة، كلاهما يؤدي إلى عراقٍ حرٍّ ومسالم”…
هكذا سخّرت أميركا قوتها ودعايتها وأسلحتها، في خدمة مصطلح اعتنقته لتبرّر حروبها.. طبعاً، الحرية التي لا تسمح بهيمنتها فحسب، بل وفي قتلها للشعوب وانتهاك إنسانيتها، والسيطرة على مواردها وخيراتها.
الليبرالية السياسية
بغضِّ النظر عن التعاريف التي قدّم بها كُثرٌ من الباحثين والمختصّين، حقيقة الليبرالية السياسية، فإن “ميرشايمر” رأى أنها:
“إيديولوجية تتّصف بالفردانية في جوهرها، وتولي أهميّة لمفهوم الحقوق الأصيلة”، وهو ما وجده يدفع السياسات الليبرالية الخارجية، إلى “النفعية” التي جعلت الحقوق “مجرّد هراء خطابيّ، يمشي على عكازين”..
هو فعلاً الوهم الكبير.. ذاك الذي لا يريد القادة الليبراليون الاعتراف بفشله وخيبة مساعيه للهيمنة التي قادت أميركا فعلاً، إلى “طغيان الأغلبية”..
حتماً، سيقول الليبراليون وأنصارهم، إن ما توصّل إليه “ميرشايمر” عن حقيقتهم، هو نوعٌ من الهجوم. لكن، أليس ما تناوله وأكّده، هو واقع نعيشه ونعاني فيه، من هيمنةِ ليبراليةِ من يسعى للتحكّم لمصلحة بلده وفردانيته؟..
نسأل هذا، ونحن نعرف تماماً حقيقة الليبرالية العالمية، التي وإن كان من المفترض أن تكون قوة للخير، إلا أنها لم تكن أبداً إلا قوة للشرّ، حتى على المستوى الدولي، وبما جعل الكاتب يصفها:
“الليبرالية على المستوى الدولي، لها شأنٌ آخر، فالبلدان التي تسعى لتطبيق سياسات خارجية، مثل الولايات المتحدة الأميركية، قد انتهى بها الأمر، إلى جعل العالم أقل سلماً، والأخطر من هذا، أنها تخاطر بتقويضِ الليبرالية في الداخل، وهو ما يكفي لبثّ الخوف، حتى في قلبِ كلّ أميركي..
فشل الليبرالية الأميركية
إنه ما لم يتوصّل إليه “ميرشايمر” ويؤكده في هذا الكتاب فقط، وإنما أيضاً، في العديد من مؤلفاته التي منها: “لماذا يكذب قادة العالم؟!”، و”مأساة سياسة القوى العظمى” و”اللوبي الإسرائيلية – السياسة الخارجية الأميركية”..
نعم، توصّل إلى فشل الليبرالية الأميركية، وإلى هزيمتها التي أدت إلى حرفِ أنظار العالم عنها كقوّة عظمى، واعتبارها دولة عاجزة عن تحقيق السلام والاستقرار الدوليّين. توصّل إلى ذلك، مقدّماً أمثلة يشهد عليها العالم أجمع، ومنها الحروب المختلفة التي خاضتها في العديد من مناطق العالم، العراق وأفغانستان وسورية وفيتنام، وغيرها من الدول التي استهدفتها، إلى أن دمّرتها وتركتها في حالة فوضى، أدت إلى ظهورِ تنظيماتٍ مسلّحة عديدة، ومنها تنظيم “داعش” الإرهابي…
التاريخ: الثلاثاء11-5-2021
رقم العدد :1045