ابتكار رقمي جديد فريد من نوعه تحت مسمى (الأصول الرقمية للأشياء)، أو (الرمز غير القابل للاستبدال)، أو تقنية (إن أف تي)، يثير الضجة من حوله، وينتشر بسرعة بعد أن ظهر مؤخراً، فأصبحت تُفرد له المواقع الإلكترونية باحتفال، واحتفاء وصل إلى صالات المزادات العالمية الشهيرة، والأكثر شهرة منها.. وهو في حقيقته، أو تعريفه بأنه نوع من الاستثمار الرقمي المتطور الذي دخل إلى العالم الحقيقي لمجال المال، والأعمال، ليعود بالتالي على مَنْ يعملون في مجاله بعوائد ربحية عالية القيمة حتى بات باباً واسعاً من أبواب الاستثمار.
قد يبدو التعريف غامضاً، أو مبهماً بعض الشيء لأنه يدور في فضاء افتراضي من عملية البيع والشراء، كأن يقتني أحدهم لوحة فنية نادرة مثلاً ثم يقوم بتحويل صورتها إلى أصل رقمي يُباع، ويُشترى في سوق الأصول الرقمية بموجب شهادات ملكية خاصة بالعنصر الافتراضي، وتحفظ حقوق الملكية الفكرية بلا منازع بآنٍ معاً لمن اشترى النسخة الرقمية لتصبح ممهورة باسمه فقط، وحق استخدامها لا يمكن لغيره.
نمط جديد من التفكير التجاري الذي لا يوفر فرصة للربح إلا ويقتنصها بعد أن وفرتها له التقنيات الحديثة في تطور جنوني سريع بما فيها من تسهيلات في المعاملات، وفي مبدأ خذ وهات، خاصة وأن العملات المشفرة باتت تزدهر، وتنتشر، وتجعل من أمر التعامل أكثر سهولة.. فها هي الصور الافتراضية للمقتنيات الثمينة تهزم الأخرى المادية الحقيقية في الاقتناء عندما يبادر المشتري إلى الحصول على تلك الافتراضية غير عابئ بالمقتنى المادي الملموس.
عالم وهمي يُنشئ سوقاً له في العالم الافتراضي، ولكنه يحقق نمواً سريعاً غير متوقع على أرض الواقع، ولم يعد ممكناً تجاهله، إذ يدخل ليس إلى الفنون فقط بأشكالها، وألوانها من فنون تشكيلية، إلى موسيقية، وسينمائية، وإلى المقالات الأدبية والصحفية، والأزياء، والتغريدات، والآثار، وأفلام (الفيديو) القصيرة، بل إنه وصل أيضاً إلى رياضة الفروسية بأحصنة سباقاتها، وربما إلى مجالات أخرى جديدة مستقبلية قد تكون أكثر غرابة، ومفاجئة.. لتقوم التكنولوجيا الحديثة بتغيير بعض المفاهيم التجارية، والأخرى الفنية، والرياضية، وغيرها مما تشمله هذه السوق.
وهناك من يرى أنه هو المستقبل الذي سيخلق ثورة في عالم الفن ليتحول من (الكلاسيكية) إلى الرقمية، ودخول الثقافة إلى تحول جديد ستتضح ملامحه بعد فترة من ازدهار هذه السوق.. فهل ستصبح حياتنا أكثر واقعية على صفحات الافتراض منها على أرض الواقع؟.. أو أنه عصر جديد يبزغ للخروج من الإطار التقليدي للأشياء باتجاه ما هو من الحداثة، والمعاصرة، ومادامت الفنون تتجه إلى رؤى أكثر تطوراً، وتصاعداً مستفيدة مما أتاحته لها التقنيات الحديثة بقدراتها العالية فلاشك أن تحولاً سيطرأ على الفن، والأدب معاً، كما على العلم، والطب، وكل مجال تدخل إليه التكنولوجيا بما يمكن لها أن تخدمه.
يظل الإنسان ابن عصره في تفاعله معه، وما يوفره له من إمكانات ووسائل حضارية تدعمه، وتجعله في تطور مستمر، والأثر التراكمي للحضارة البشرية جعلها في هذا القرن الجديد تقفز قفزات هائلة في العلم وتطبيقاته، وتقنياته.. فلماذا نستغرب إذاً هذا الجديد؟ أم أننا نقف على ضفاف الشك قبل أن نخوض فيما يأتي إلينا من تجارب مستجدة في حياتنا، ولو كانت امتداداً لما سبقها من تجارب، وخبرات مكتسبة؟.
إن توظيف هذه التقنيات الحديثة في مختلف المجالات هو بحد ذاته خطوة نحو الاندماج مع مفردات عصر جديد آخذ بفرض سطوته علينا ليخرجنا من عباءة النمطية فنرتدي ثوباً آخر مختلفاً، ومبتكراً، ولا تخلو خطوطه من الإبداع.
ونحن مازلنا لا ندري ما إذا كنا سنمل من هذا الجديد الذي ينمو في حيز الافتراض لنعود أدراجنا إلى ما نلمسه لمس اليد من حقيقة الأشياء، أم أن الرقمية بجنونها المتصاعد ستستحوذ على الناس في كل حقل، وفضاء.. وستسحبنا وراءها إلى مجاهل أكثر تطوراً منها.
(إضاءات) ـ لينـــــا كيـــــــلاني