في كتابها “سورية الطريق الصعب من الحرب إلى السلم”.. ماريا خودينسكايا تقرأ الأحداث وتستشرف المستقبل.. الدرب إلى السلم السوري سيحدد وجه العالم
الثورة أون لاين – قراءة أحمد حمادة:
كثيرة هي الكتب التي بحثت وتقصت وتناولت الحرب الإرهابية على سورية وتعقيداتها وتشابكاتها، وكثيرة هي الكتب التي انحازت إلى الشعب السوري إيماناً من مؤلفيها بعدالة قضية السوريين، وعرت الإرهابيين وداعميهم ومشغليهم، مقابل تلك الكتب الصادرة في الغرب التي ضللت العالم، وأخذت الرأي العام العالمي إلى اتجاهات أخرى مناقضة للحقيقة.
كتاب “سورية الطريق الصعب من الحرب إلى السلم – الدبلوماسية متعددة الجوانب في التسوية السورية” للكاتبة والدبلوماسية الروسية “ماريا خودينسكايا غولينيشيفا” هو من النوع الأول، الذي عرى الإرهاب، وفضح منظومة العدوان، بالرقم والحقيقة والمعلومة والدليل، وهو صادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب في وزارة الثقافة، وترجمه إلى العربية الأستاذ عياد عيد بكل حرفية ناقلاً حتى المفردات والمصطلحات التي لا تستخدم عادة في اللسان السياسي السوري والعربي، فلم يعمد إلى تعديلها احتراماً لأمانة النشر ودقته، ويقع الكتاب ب944 صفحة من القطع الكبير.
“سورية الطريق الصعب من الحرب إلى السلم” ليس الكتاب الأول للمؤلفة الروسية عن الحرب العدوانية على سورية بل سبق وأن أصدرت الكاتبة كتابين آخرين أولهما بعنوان “الجانب الصحيح من التاريخ – الأزمة السورية” عام 2015، وثانيهما عام 2017 بعنوان “حلب.. الحرب والدبلوماسية”.
“الأزمة السورية هي النزاع الواسم لعصرنا”.. بهذه الكلمات الست تبدأ الدبلوماسية والباحثة الروسية “غولينيشيفا” مؤلفها، لتعبر بذلك عن كل الصراعات في العالم بين القوى العظمى حول مصالحها وتشابكاتها، ليظهر أن ما جرى ويجرى في سورية هو انعكاس لكل النزاع العالمي الذي يسم القرن الحادي والعشرين، والذي يتمحور بين أميركا وأدواتها التي تريد الإبقاء على نظام القطبية الأحادية، وبين الصين وروسيا اللتين تريدان بناء نظام متعدد الأقطاب، وعليه كانت القوى الطامعة بمنطقتنا قد ركبت موجة الأحداث في سورية لتحقق هدفها المذكور وغاياتها ومصالحها الاستعمارية.
وفي الغوص بتفاصيل هذه الرؤية ترى المؤلفة أن الأحداث التي بدأت عام 2011 باحتجاجات تطالب بلبرلة الحياة السياسية وتحسين الأوضاع الاقتصادية سرعان ما تحولت إلى مسرح مواجهات مسلحة عنيفة ضد السوريين من قبل تنظيمات متطرفة، وبين شتى اللاعبين الدوليين والإقليميين، بين روسيا وإيران من جهة والولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي وأوروبا وتركيا وقطر والسعودية من جهة، ناهيك عن لاعبين آخرين عديدين، كما تحولت إلى “حقل اختبار” من نوع خاص تتم فيه تجربة صيغ مبتكرة للتعاون بين مختلف القوى المنخرطة بالحرب.
من هنا ترى المؤلفة أن الخيوط بدأت تتعقد أكثر فأكثر بسبب تشابك اللاعبين الدوليين والإقليميين، ولتطفو على السطح مساعي هؤلاء اللاعبين نحو جوانب محددة من النزاع خارج الآليات والأنساق القائمة.
ومن هنا أيضاً باتت سمة المرحلة المعاصرة من تطور النظام العالمي أنها تأثرت تأثراً مباشراً في ما يجري في سورية من حرب ومؤامرات على شعبها، وتكمن في نمو إمكانات بعض الدول وازدياد قدرتها على تحقيق مصالحها مثل تركيا والسعودية وقطر ومحاولتها أن تستحوذ بمفردها على “إدارة الأزمة” وقدمت الدعم المالي واللوجستي والمادي للتنظيمات الإرهابية، وبالمقابل دعمت روسيا وإيران الحكومة الشرعية السورية، وينبغي على هذا النحو – كما تقول “غولينيشيفا” – أن يدرس الموضوع السوري بعد وضعه في منظومة العلاقات الدولية تماماً مثلما أدرجت هذه العلاقات في إطار النظام العالمي المتشكل بعد (يالطا بوتسدام) ضمن منطق المجابهة القطبية الثنائية وتأثيرها في منظومة الأمن الإقليمية.
ولعل أكثر ما يلفت في مؤلف “غولينيشيفا” الهام والعميق أن الكاتبة تواكب الأحداث في سورية منذ لحظة نشأتها، مسجلة مراحل تطورها خطوة بخطوة، ليتحول كتابها بذلك إلى مرجع غاية في الأهمية، مرجع شامل يحيط بجوانب الحرب الإرهابية والأزمة من كل جوانبهما، واللافت أكثر أن المؤلفة لم تنظر إلى المسألة برمتها من زاوية محلية خالصة، بل بصفتها نقطة اشتباك بين مصالح الدول المنخرطة فيها، وبصفتها مرآة تعكس من جانب رفض عدد من الدول نظام القطبية الأحادية الذي ساد بعد انتهاء الحرب الباردة، وتعكس من جانب آخر تنامي دور الدول الإقليمية في حل الأزمات الناشئة وازدياد قدراتها على الدفاع عن مصالحها بقوة، ثم تحاول المؤلفة في ضوء ذلك استعراض الدور الروسي في حل عقدة التناقضات المتكونة عن ذلك.
ثم تستطرد المؤلفة في فصولها قائلة بأنه إذا أخذنا الجانب الدولي ففي مقدورنا أن نقول بأن المجتمع الدولي المشترك في سورية اتسم بالازدواجية، فقد قسمت الحرب أعضاء المجتمع الدولي بين مؤيد للرئيس الأسد وحكومته وبلده وبين معادين له ولسورية، وكان لكل عضو مؤثر فيه دول أخرى تؤيده، فروسيا والصين وقفت معهم إيران والجزائر والعراق وفنزويلا وكوبا وغيرها، وأميركا وقفت خلفها قطر وتركيا والسعودية والاتحاد الأوروبي وغيرها، مع الانتباه إلى أننا يجب أن نلحظ التناقض في المصالح بين أقطاب الحلف الأميركي نفسه، كالتناقض السعودي القطري، والأميركي التركي، في بعض القضايا التفصيلية والمصالح الخاصة لكل طرف، مثل استخدام واشنطن للميليشيات الكردية وحساسية تركيا تجاهها، وقد اتسمت هذه الخلافات بطابع هش أحياناً، ولذلك بدت الصراعات فيما بينهم، وظهر جلياً في تشكيلات ما يسمى المعارضة السورية من “ائتلاف” و”مجلس اسطنبول” ومجلسي الرياض وخلافاتها حسب عائديتها وتبعيتها، وكذلك في تبعية الحركات والتنظيمات الإرهابية المتطرفة كالنصرة وغيرها من قبل تركيا أو السعودية وسواهما.
على هذه القاعدة من تشابك المصالح وتعارضها كانت الآليات التقليدية المتبعة في مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة وغيرهما من المؤسسات الدولية تعكس وجه ذاك الصراع الدولي المعقد، فغابت فاعلية قرارات مجلس الأمن وغاب الدعم لها، وباتت مهمة تنفيذ القرارات الصادرة عنه غير قابلة للتنفيذ فعلياً حتى في ظل إجماع الأعضاء الخمسة الدائمين.
ارتباطاً بهذا التحليل العميق ترى المؤلفة أنه ابتداء من عام 2015 بدأ مركز ثقل التسوية السورية ينتقل تدريجياً إلى مستوى البحث عن آليات تعكس التحول في النظام العالمي المرتبطة بتنامي دور اللاعبين الإقليميين، فكانت أستانا وسوتشي، وبالمقابل كانت ما تسمى مجموعة العمل حول سورية، وما تسمى المجموعة الدولية لدعم سورية، وكان ضمن هوامش معينة أن يتم هناك تعاون مشترك لحل الأزمة في مواضيع معينة ومحددة حتى بين القوى الكبرى المتصارعة مثل موضوع المساعدات الإنسانية.
في تفاصيل التحرك الأميركي في سورية ترى المؤلفة أن واشنطن تزعمت التحالف الدولي المزعوم لمحاربة الإرهاب والقضاء على داعش لتضع قدمها على الأرض، ثم راحت تبني القواعد العسكرية غير الشرعية على الأرض وراحت تدعم “داعش” وتعتمد على ميليشيا “قسد” لتنفذ لها مخططاتها التقسيمية، على عكس روسيا التي راحت تحارب التنظيمات الإرهابية إلى جانب سورية، رغم أن الحوار بين موسكو وواشنطن حافظ على أهميته في مواطن عديدة وانتكس في أخرى مثل الانهيار الفعلي لنظام وقف الأعمال القتالية في مناطق خفض التصعيد بسبب غض واشنطن وأنقرة طرفهما عن خروقات أدواتهما من الإرهابيين.
وليس هذا فحسب بل تفرد المؤلفة مساحات كبيرة من أوراقها للحديث عن تجييش الولايات المتحدة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية ضد سورية واتهام الحكومة السورية زوراً باستخدام الأسلحة المحرمة تمهيداً لإيجاد مبررات العدوان عليها، وكذلك الأمر في مجلس حقوق الإنسان وبقية المؤسسات الدولية التي اتخذتها وأتباعها منصات للهجوم على دمشق وموسكو وحلفائهما، وليس انتهاء بالمتاجرة بموضوع اللاجئين والمهجرين والمعابر غير الشرعية لاستخدامها وسيلة لإيصال السلاح للتنظيمات الإرهابية، وصولاً إلى محادثات جنيف لحل الأزمة ومحاولة واشنطن وضع العصي في عجلاتها وكتابة دستور جديد يتواءم مع مقاسات مصالحها بعيداً عن إرادة السوريين.
من الفصل المعنون ب”ولادة الأزمة” إلى فصل “البنية الإيديولوجية والممولون الخارجيون” فإن النقطة الأهم في مؤلف “غولينيشيفا” أنها تقول “إن الدرب إلى السلم في سورية صعب، لكنه ليس مستحيلاً، وسيحدد وجه العالم الآخذ بالتشكل يوماً بعد يوم”، فما يجري من أحداث في سورية ونتائجها سيرسم ملامح النظام العالمي الذي يتشكل حالياً.
وتختتم “غولينيشيفا” مؤلفها بالقول إن عدم الاستقرار في النظام العالمي، وعدم القدرة على التنبؤ به، وعشوائية صيرورته، يتطلب المنهجية في تنظيم عمل جماعي لحل الأزمة في سورية، ولروسيا مكانها الخاص في ذلك، وعلى موسكو أن تكون صاحبة المبادرة والقادرة على إخماد الأجندات السلبية لدى اللاعبين الآخرين، وتنظيم العمل المشترك ومتعدد الأطراف للبحث عن حلول مقبولة من الجميع، وبما ينسجم مع إرادة السوريين ويفضي إلى تعزيز الأمن السوري والإقليمي والدولي.