الملحق الثقافي:د. ابتسام محمد فارس *
إن السّمة المميزة للأحداث المعاصرة، كثرة الصراعات المتطرّفة، بما يرافقها من أفكارٍ ضلاليّةٍ، ومستوياتٍ متدنِّيةٍ من الفكر، وظهور ثقافة العنف التي تعتمد على سيادة اللون الواحد، على حسابِ ثقافة الحوار التي تؤمن بالتعدديّة وتقبّل الآخر، وتعزيز مبدأ العيش المشترك، وإن وجود قنوات الاتصال المتعدّدة، قد منح الفرصة لأيّ شخصٍ مهما كان انتماؤه العرقيّ والدينيّ والسياسيّ، للمشاركة برأيه في مختلفِ القضايا المطروحة، ومن هذا المنطلق، أصبح الاهتمام ببناءِ ثقافة الحوار، من الأمور الأساسيّة التي يجب العمل على نشرها، وخصوصاً بين الناشئة، وهذه الثقافة لا يمكن فرضها بالقوّة، أو بالقرارات والأوامر، بل هي عملية تبدأ منذ الطفولة، ويسهم في انتشارها كلّ المؤسّسات المعنيّة، بما فيها الأسرة والمدرسة، وكلّ قطاعات المجتمع، من وسائلِ إعلام وغيرها.
الحوار إذاً: «فنّ من فنونِ الكلام والاتصال والتواصل، وهو أيضاً، أحد أساليب التعلّم والمعرفة، وغالباً ما يتمُّ بين طرفين مختلفين في الآراء، ومتعارضين في وجهاتِ النظر، بحيث يسعى كلّ طرفٍ لإقناع الآخر في قضيّةٍ جدليّة، والحوار طريقة لفرزِ الحقائق، وغربلة القيم، ويكون ذلك بإعمال الفكر الانتقاديّ في الأفكار المطروحة بين المتحاورين، وإخضاعها للتحليل والاستنتاج، والشخص الذي يمتلك ثقافة الحوار، لديه فهمٌ واضح لطبيعة هذا الحوار، ويحمل الاتّجاه الإيجابيّ نحو الحوار والتحاور، إضافة إلى ذلك، يمتلك مهارات الحوار والوعي والإدراك التام، بل النضج الفكريّ لحلِّ المشكلات اليومية، واتّخاذ القرارات المناسبة.
إنه ما يجعل ثقافة الحوار، إحدى الصفات الأساسيّة للعمليةِ الديمقراطية، ومطلباً إنسانيّاً وأسلوباً حضارياً بين طرفين، حول قضيةٍ ما، للوصول إلى الحقيقة، والمحاور يمكنه التعبير عن أفكاره وآرائه، بلا قيود أو ضغوط،، فثقافة الحوار تعني، أن يتمّ تقبّل الشخص المحاوَر مهما اختلف في اتّجاهه الفكري، والإيمان بفكرة أن الاختلاف هو تكاملٌ وليس تضاداً، وأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للودِّ قضية، ولقد أكّد عالم النفس التربويّ، الفيلسوف الأميركي «جون ديوي»، أن ما يدعم الديمقراطيّة في أيّ مجتمعٍ، هو تنظيمها الاجتماعيّ المتأصّل في الحوار، فكلّ مشارك في الحوار، يجب أن يمتلك الفرصة لعرضِ رأيه، وتقديم وجهة نظره، وأن تكون هذه الفرصة متساوية ومتكافئة لجميع الأطراف المشاركة، وهذا ما نادت به الاتفاقيات والمواثيق الدوليّة، في حق الإنسان بالتعبير عن الرأي.
لا شكّ أن الحوار، هو من أهم أدبياتِ التواصل الفكريّ والثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ في العالم المعاصر، وذلك لما له من أثرٍ في إنهاءِ الخلافات مع الآخرين، ومن نشرِ التسامح، بعيداً عن العنف والإقصاء.
أمّا عن أهمّ الصفات التي يتميّز بها المحاور الجيد، فهي:
– الثقافة العامة، والخلفية العلميّة التي تبيّن الثراء الفكريّ للمحاور في الموضوع، بعيداً عن التعصّبِ الأعمى نحو الفكرة.
– المرونة في تقبّلِ الآراء من الآخر، ليكون الحوار ذا قيمةٍ علميّةٍ، تعزّز الثقة بين المتحاورين.
– حسن الاستماع، وهو أحد أبرز الصفات التي تساعد في الوصول إلى نتائجٍ إيجابية في العملية الحوارية.
– قوّة اللغة والثقة بالنفس، والابتعاد عن الكلام المسيء، والاعتراف بالطرف الآخر.
أمّا العوامل التي تُضعف الحوار، فهي: التسرّع في إصدار الأحكام، التعصب للآراءِ والأفكار التي يحملها الشخص المحاور، التفكير السطحي دون وجود القراءة الناقدة للقضية.
يبقى أن نقول: للحوارِ وظيفة ثقافيّة واجتماعيّة وتعليميّة، فهو يسهم في:
-نشر الوعي بين البشر في جميع المجالات، ومن ثم فهو وسيلةٌ للتقدّم العلميّ والتقنيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ، ولمواجهة عوامل التخلف والجمود.
– تعرّف معتقداتِ وقيمِ المجتمعات الأخرى، والعمل على تقبّل الآخر وعدم إقصائه.
– إثارة العقل والتفكير، من خلال تبادل الأفكار والمعلومات.
– إيجاد قواعد التفاهم بين الشعوب والثقافات، فلولا الحوار لسادت ثقافة العنف والتطرّف والعدوان، ومن ثم توفير الأمن الإنساني.
– الكشف عن الحقائق، فما يقدّمه المتحاورون من براهينٍ وأدلّة، يصحِّح المعلومات عند كلا الطرفين.
لاشكّ أن تعزيز ثقافة الحوار، والانفتاح على الآخر، والاطّلاع على تجاربِ الثقافات المختلفة، وتعليم الأجيال مبادئ احترام آراء الآخرين واختلافاتهم، ليست مسؤوليّة جهةٍ واحدة، وإنما مسؤوليّة الجميع، أفراداً ومؤسّسات، ولا بد من استخدام الإعلام المرئيّ والمسموع، بشكلٍ جاد، للحثِّ على ثقافة الحوار، وممارسته ضمن إطار القانون، والانتقال بالثقافة والفنّ والتفكير، من حالاتِ الفوضويّة والعنف والتعصّب، إلى جودةِ الأداء وانفتاح التفكير وقبول النقد والاعتراف بالخطأ، ولذلك فإن ثقافة الحوار هي المخرج الطبيعي من أمراض العنف والتطرّف، وغياب هذه الثقافة، سوف يسمح لخطاب الكراهية أن ينمو وينتشر.
إذاً، علينا جميعاً، وباختلافِ أفكارنا وآرائنا واتّجاهاتنا، أن نعمل على تفعيلِ قيم التسامح ونقد الذات، واحترام التعدديّة داخل المجتمع الواحد أوّلاً، ومن ثمّ الانتقال والتحاور على مستوى أوسع، ومتى وصلنا إلى هذا القناعة، واعترفنا بشرعيّة الآخر وعدم تهميشه أو تخوينه، نكون قد أسّسنا لبناءِ مجتمعٍ متماسك وحضاريّ..
*أستاذ مساعد ــ كلية التربية -جامعة دمشق
التاريخ: الثلاثاء3-8-2021
رقم العدد :1057