مستقبل احتياطات العالم ومخاطر العملة الواحدة احتياطي الصين في زمن الاضطراب ..تفكيك الاعتماد على الدولار خطوة بخطوة
هني الحمدان :
لطالما كانت الصين أحد أكبر الممولين للولايات المتحدة عبر حيازتها الضخمة لسندات الخزانة الأميركية، التي وفرت لها أداة آمنة وعالية السيولة للاحتفاظ باحتياطاتها من النقد الأجنبي، والتي تتجاوز 3.2 تريليون دولار حسب بيانات صندوق النقد الدولي (2024). لكن هذا “الزواج المالي” الذي شكّل أحد أعمدة النظام المالي العالمي، بدأ يشهد تصدّعًا تدريجيًا، تقوده بكين بحذر وتكتم. فمع تصاعد التوترات الجيوسياسية، وتوسع العقوبات المالية الغربية، بدأت الصين تعيد صياغة استراتيجيتها تجاه احتياطيها الأجنبي، في ما يبدو أنه تفكيك بطيء ومنهجي لاعتمادها على الدولار الأميركي.
الدوافع السياسية والاقتصادية وراء إعادة الهيكلة
شكلت العقوبات المالية غير المسبوقة ضد روسيا بعد غزو أوكرانيا في 2022 جرس إنذار مدوٍّ لدى صناع القرار في بكين. فقد تم تجميد نحو 300 مليار دولار من احتياطات البنك المركزي الروسي الموجودة بالدولار واليورو. هذا التطور أظهر أن أصول الاحتياط ليست محصّنة من التسييس.
من جهة أخرى، تزايدت المخاوف من هشاشة الاقتصاد الأميركي، في ظل تراكم دين عام يتجاوز 34 تريليون دولار، وارتفاع معدلات الفائدة بصورة متسارعة خلال عامي 2022–2024. كما أن تباطؤ الاقتصاد الصيني نفسه، وضعف اليوان، والحاجة إلى إدارة التدفقات الرأسمالية، كلها عوامل دفعت بكين لإعادة تقييم التوزيع الجغرافي والنوعي لاحتياطاتها حسب رأي الباحث الاقتصادي محمد السلوم ل ” الثورة “.
وبين السلوم ان الصين لا ترغب في إحداث هزة في الأسواق، ولا في استفزاز واشنطن. لذا اختارت مسارًا بالغ الحذر في تقليص حيازتها للدولار، يعتمد على مبدأ “tengnuo” (الاحتواء المرن). وقد تجلّى ذلك من خلال تقليص تدريجي لحيازاتها من سندات الخزانة الأميركية التي هبطت من 1.1 تريليون دولار في عام 2021 إلى نحو 767 مليار دولار فقط بحلول مارس 2024 – وهو أدنى مستوى منذ عام 2009، وفق بيانات وزارة الخزانة الأميركية.
هذا التحرك يتم بواسطة هيئة إدارة النقد الأجنبي الصينية (SAFE)، التي توزّع الاحتياطي بطرق معقدة تشمل صناديق سيادية، وحسابات باسم كيانات في هونغ كونغ وبلدان أخرى، مما يصعّب تتبع حيازاتها بدقة. وقد باتت بكين تميل أكثر إلى تنويع الأصول نحو أدوات أكثر مرونة وأقل ارتباطًا بالدولار.
الأدوات البديلة: الذهب وسندات الوكالات الأميركية
من أبرز البدائل التي اختارتها الصين، الذهب، الذي يعتبر ملاذًا آمنًا في أوقات القلق الجيوسياسي والنقدي. فحسب بيانات مجلس الذهب العالمي، واصلت الصين شراء الذهب لمدة 18 شهرًا متتالية حتى إبريل 2024، ليصل احتياطيها الرسمي من الذهب إلى 2,262 طنًا، ما يعادل نحو 150 مليار دولار، علمًا أن هذا الرقم لا يشمل ما قد تحتفظ به المؤسسات الصينية غير الرسمية.
بدلاً من سندات الخزانة، اتجهت الصين نحو سندات وكالات حكومية أميركية مثل “فاني ماي” و”فريدي ماك”، التي توفّر عائدًا أعلى بدرجة مخاطرة محسوبة، فضلًا عن أدوات الدين القصيرة الأجل وودائع البنوك الأوروبية والآسيوية.
رغم تراجع الحصة الصينية من سندات الخزانة الأميركية، لا تزال بكين ثاني أكبر دائن لواشنطن بعد اليابان. ومع ذلك، فإن الخطوات الصينية ترسل إشارات واضحة لباقي الاقتصادات الناشئة حول ضرورة تنويع الاحتياط، في عالم يشهد تصدعًا متزايدًا في الثقة بالنظام النقدي الأميركي.
لا يبدو أن الدولار سيفقد مكانته كعملة احتياطي عالمي في الأجل القريب – فهو لا يزال يشكل 58.4% من الاحتياطات العالمية وفق صندوق النقد (2024). لكن تحركات الصين، إلى جانب مبادرات مثل نظام الدفع الصيني (CIPS) ومقايضات العملة الثنائية، تشير إلى مسار طويل الأمد نحو عالم متعدد الأقطاب النقدية على حد الباحث السلوم .
نحو عالم متعدد العملات؟
التحرك الصيني ليس ثورة بل إعادة تموضع استراتيجية، تهدف إلى تقليص الانكشاف المالي والسياسي على الدولار، دون تقويض النظام القائم فجأة. إنها رسالة مزدوجة: إلى الداخل، مفادها تعزيز المرونة المالية؛ وإلى الخارج، بأنها قادرة على الدفاع عن سيادتها النقدية.
في زمن تزداد فيه الاضطرابات، يبدو أن الصين اختارت أن تتحوّل من “أكبر حامل للدولار” إلى “أكبر لاعب في لعبة التنويع العالمي”، فاتحة الباب أمام نقاشات أعمق حول مستقبل احتياطات العالم ومخاطر التمركز حول عملة واحدة.