الثورة – عبير القزاز:
مرت تلك الدهور التي قضيتها في غربتي، حبيسة، غريبة، منبوذة!
كل أقوال التعزية والترحيب، الحب والمودة..، لم تجعل صقيع قلبي يذوب، ولم تشعر روحي بالدفء، كانت سنوات عجاف لهذه الروح المثقلة بهموم عشق بعيد.
هناك أشياء عصية على أصابعي الضعيفة أن تكتبها، أو أن تعبر عن عمقها الساذج.. فقد شعرت روحي بالعطش، إلا أن ماء كل الأنهار وبحيرات العالم لم تكن لترويني، مثل (مي الفيجة)، حتى عندما كنت أنظر إلى شرفات المنازل، كانت تداعب ذاكرتي، سجادة منشورة على (الدرابزين) وكنت أشتاق لرائحة مؤنة (الثوم والبصل) البلدي، والبامية والملوخية…!
قد لا تشعركم هذه التفاصيل إلا بسخافتي، إلا أن مثل هذه السخافات، كانت كفيلة كغيرها من العظائم تمزق روحي المبعدة.
اثنتا عشرة سنة، في هجرتي القسرية، كانت كافية جداً لشطري نصفين، نصف خارجي يتفاعل ربما مع كل من حوله، ونصف داخلي ميت.
لن أنكر حبي وتعلقي (بطنجة) مدينة الجمال، كانت تشعرني أحياناً بأنني هنا، كان الزقاق الذي أسكن فيه اسمه (اللاذقية) والذي بعده (دمشق)..
كانت طنجة مرتبطة تماماً بدمشق، هذه المدينة التي ضمها بلد حنون رغم قسوة كل الظروف، أهلها الذين اعتادوا الكرم والحنو، حتى بات هذا سليقة عند كل مغربي التقيت به.
هؤلاء الطيبون، الحقيقيون، الذين يحملون هم الأمة على عاتقهم، ولا يتركوا أي فسحة لتراخ، من دعم وحب ومودة!
ولا غرو أن المغرب آخذت الساحر.. متأثرة بمن عاشوا فيها، فصار ذاك الخليط الذي يشعر كل من يزورها بالألفة..
ولكن، (هناك دمشق آلاف الأميال سفراً، وأبعاداً كونية شوقاً، فمن يستطيع مقاومة هذه الجميلة؟!
هل هناك من تجمع بين الجمال والقوة، كل الجمال ضعيف، إلا جمال دمشق، وليس غريباً أن عشقها قاسيون وأحاطها حباً منذ آلاف السنين.
عندما تجهزت للعودة وضعت ألف (سيناريو) في رأسي، كانت المشاهد المتخيلة لهذا اللقاء المحموم، المحكوم بالعشق يأسر لحظات يومي كلها، كانت الأسئلة تتداعى والخيال يسرح.. هل سوف أبكي؟ أضحك؟ أرتجف؟ هل سوف أجن؟!!
ولكن شيئاً من ما ذكرت حدث فعلاً، فلحظة المعجزة قد حانت ووطئت أرضها، سجدت، حمدت الله على معجزات توالت جعلت قلبي وعقلي في حالة من الهذيان المعلن!
شهران وأنا هنا، نعم, (في دمشق)، أمشي في شوارعها، أستنشق هواها، الذي على هواي، حتى أني طلبت من ابنتي (قرصة كما يقال) علني أحلم حلماً لا أريد منه أن أصحو، صوت يأتي من المذياع، يوقظني على حقيقة أجمل من كل أحلامي التي حلمتها يوماً (هنا دمشق)!
كل التفاصيل باتت عظائم، كل التوافه السطحية عميقة، كل شيء يعنيني هنا، كل ما يأتي سيصبح جميلاً حتماً، لأني عدت إلى دمشق.
وسامحوني سأفتح قوساً، لا للعبارات، بل لذلك الألم الذي كان يعتبر قلبي، فهنا معشوقتي، هنا روحي، كل كلمات الأدب لن تكفيني، وهذا المداد (الالكتروني) يعقد مسألة عجزي عن خط ما بداخلي..