ثورة أون لاين – رئيس التحرير عـــلي قــاســـــــم:
تنتصب المحاكم في الطريق الممتدة إلى جنيف وسواها، قبل أن يبدأ المؤتمر الدولي وحتى قبل أن يحسم انعقاده من عدمه بشكل جذري، ولم تكتفِ الكثير من الأطراف بمصادرة النتائج، بعد أن استلبت الضمائر والمبادئ والقوانين على مدى عقود خلت،
بل تحاول أيضاً أن تكمّ الأفواه ليكون جنيف على المقاس وحسب الطلب، أو على الأقل أن تكون الطريق إليه وفق التمنيات وعلى حجم الأوهام.
وتحضيراً لذلك، كانت المحاكمات الافتراضية تشق طريقها إلى العلن وبدأت المرافعات تستعر يميناً وشمالاً وتتزاحم في سباقها خلف متاريس وخنادق انتصبت إيذاناً بالمعركة الوجودية الأخيرة، حيث الميدان يسحب بساطه.. والوعود والالتزامات تتبخر.. والأوراق المتراكمة تستنفد أغراضها وينتهي عمرها الزمني تباعاً بعد أن احترق معظمها بين أصابع من يحملها، وصولاً إلى الإقرار بأن الهروب من الاستحقاق السياسي لم يعد متاحاً ولا هو ممكن في ظل المعطيات المتسارعة على الأرض.
في البداية كان الهجوم الصاعق على جنيف يمر من بوابة التعطيل والتفخيخ والاشتراط، ولم تدّخر الأطراف المعترضة عليه والمتوجسة من حساباته ومعادلاته وسيلة ولا أداة إلا واستنفدت استخدامها حتى الأخير، وحين قاربت النهايات تم اللجوء إلى المحاكمات المسبقة على قاعدة من التباينات الحادة في المقاربات التي تنتعش على ركام التحالفات المتهاوية, وتبادل لعبة التشابكات داخل حلف العدوان, ما يضفي المزيد من الارتباك على جبهات الاشتباك والمعارك المفتعلة التي يُثار غبارها بطريقة استعراضية واضحة.
فالإدارة الأميركية التي تُسرِّب عمداً الاتفاقات الإطارية القائمة مع موسكو على قاعدة أن المؤتمر بات في موعده مهما بدت التحديات والعراقيل، فإنها على الجانب الآخر لا تزال ترسم ابتسامات صفراوية تنمّ عن عزيمة واضحة بإتاحة المزيد من الوقت أمام أدواتها الإقليمية والغربية في اختلاق ما يمكن من عقبات، يتم التعبير عنها اليوم على شكل المحاكم المنصوبة والمتسرعة في تعدد نماذجها وأشكالها ومصادرها.
ولم تتردد أميركا ذاتها في وضع جنيف تحت المقصلة حين لم تبدِ حراكاً ولا موقفاً تجاه ما يجري من تسويف للمواعيد والالتزامات التأشيرية التي تقتضيها التحضيرات اللوجستية، وهي تلوّح بالمقصلة ذاتها كلما شعرت بأن المأزق يكبر وتزداد الاستحقاقات الخارجة من فوهة التصويبات الأميركية، سواء كانت مباشرة أم عبر أدواتها بالأصالة عن نفسها أم بالوكالة.
وهكذا يتحوّل الحماس الغربي إلى فتور.. والأصوات المرتفعة إلى همس ما يلبث أن يخفت بالتدريج، حتى يختلط المشهد وتتعدد المستويات والطبقات الصوتية في تناول المؤتمر أو في مقاربة التمنيات التي قد تنتج عنه، في حسابات تتبدل وتتأرجح على مقاس التعثر الأميركي في تحديد المطلوب إقليمياً، بعد أن وجدت الإدارة الأميركية أن الكثير من الملفات التي كانت تراهن على إغلاقها تعود لتفتح جبهات فيها وعلى مصراعيها، وفي مقدمتها المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وبوابات الجحيم القائمة على حوافها.
لا أحد يجهل مدى التعويل الأميركي على مساعي كيري في هذه المفاوضات، وهي تدخل طور السباق المحموم مع الزمن، لتكون معركة التصفية النهائية للقضية الفلسطينية، التي يمكن لواشنطن التعويض من خلالها وهي ترسم خطوات ابتعادها أو انكفائها عن المنطقة تبعاً لمؤشر الترددات داخل الحلقة الفلسطينية الإسرائيلية التي هتكتها المقاربة الأميركية وهي توغل في استرضاء إسرائيل على حساب تقزيم المطالب الفلسطينية، وتحجيم مساحة حضورها السياسي واختصارها في عناوين باهتة تشعل الأزمة من بوابات إضافية وغير محسوبة قد تؤدي إلى انفجارها.
لذلك تلوّح أميركا بالمقصلة كلما اقترب الموعد، فيما أدواتها تجد فيه ذريعة لتنصب محاكمها والبدء بمرافعاتها وتسخين الأجواء وتصعيد الجبهات المفتعلة، في معركة تحارب من خلالها طواحين الهواء وهي تُحصي خسائرها ومرارة الخيبة التي تنتصب أمام أعينها حين ترى الأميركي ذاته يقصيها مسبقاً، وكأن المقصلة الأميركية التي تستهدف جنيف هي مقصلة سياسية لإقصاء من احترقت أوراقه أكثر مما هي استبعاد لحقيقة أن المؤتمر الدولي يضع العربة على السكة بانتظار لحظة الانطلاق.
a.ka667@yahoo.com