الملحق الثقافي:ثراء الرومي:
أُشرِعُ سفن حروفي، يتهدّجُ صوتُ الموج. تمدّ السّماء طرف عباءتها الزّرقاء لِتربِّتَ على كتف غيماتي التي أشجتها الذّكريات، ولتحتضن دموعاً احترقَتْ في طريقها إليها. أتنسّم في طرف تلك العباءة ضوعَ من رحلوا، أكاد أسمع أصواتهم، وصدى العمر الجميل. تذكّرني النّجوم السّاهرة بأمسياتٍ لطالما كانت حافلة بنبضِ الأسرة ودفء الحبّ والمودّة. وعلى جبين المدى أرسم لون ضحكاتهم، لأتسوّل من زمن الحزن والفجائع، فرحةً يصهل صداها في الرّوح، قائلاً أنّهم حاضرون.. بين الألم والأمل حاضرون، بين كلّ دمعةٍ وابتسامةٍ يسكنون، وسيبقون ضوعاً للعمر، وجمراً في ضلوع الذّكرى مهما تهادت سفينة الحياة في يمّ فرحٍ قادمٍ منتظرٍ ولو بعدَ حين.
هي ليست حكايتي وحدي، بل تكاد تكون حكاية كلّ السّوريّين ممّن طحنت رحى الحرب قبضةً كبيرةً من بذور أفراحهم، وذرتها مع الرّيح التي أعقبت تلك الحرب.
كم يلزم من عمرٍ كي نجزل العطاء والوفاء لأمّهات الشّهداء اللّاتي نذرَت كلٌّ منهنّ فرحةَ عمرِها قرباناً على محراب الوطن، ليزهر ترابه عزّةً وكرامةً.
كم يلزم من حبيبات عرقٍ نخبر بها شهداءنا أنّنا على العهد باقون، وأنّ دماءهم المقدّسة الطاهرة ستبقى قناديل نستنير بها وننير دروب أبنائهم في ظلّ وطن عزيز أبيّ.
لستُ بصددِ إلقاء محاضرةٍ خطابيّةٍ أحشد فيها كلّ الصّور البلاغيّة والمفردات المنمّقة، فجعبةُ الكلام تتّسعُ للكثير.
ما أحوج كلّ أبٍ يعيش لوعة الفقد وحسراته الصّامتة المكابرة، وكلّ أخٍ وأختٍ، وكلّ من أحالتهم آلة الحرب اللّعينة التي داهمتنا على حينِ حقدٍ أرعن وظالم ومظلم وشرير، إلى أراملٍ أو أيتامٍ أو مصابين أو حزانى.. ما أحوج كلّ هؤلاء لأن يشعروا أنّ عجلة حياتهم ستستمرّ – شاؤوا أم أبوا، فالجميع يتشاركون أوجاع وسامٍ عُلِّقَ على صدورهم، كما يتشاركون سحائب الدّمع الغزير تحت فيءِ المحبّة الصّادقة.
في هذا الزّمن القاسي الذي كشّر فيه وحش الغلاء عن أنيابٍ لا ترحم، ما أسمى ما نقدّمه لبنات الشّهداء وأبنائهم من دورات تعليميّةٍ تطوّعيّةٍ مجّانيّة، وأنشطةٍ ترفيهيّةٍ، ومبادرات إنسانيّةٍ واجتماعيّة وثقافيّة تجعل شهداءنا يقرّون عيناً في عليائهم، لأنّ ذويهم في العيون. ففلذات أكبادهم أحوج ما يكونون لمن يرعى مواهبهم ويسعى لتكريم المتفوّقين منهم، ليقول لهم أنّ الدّنيا ما زالت بخير، وأنّ ثمّة آفاقاً بعيدة عليهم أن يتطلّعوا لبلوغها، من أجل أن يثبتوا لمن رحلوا، أنّهم قادرون على مواصلة المشوار من بعدهم، وأنّ الأملَ زادُ الطّريق الطّويل مهما كان هذا الطريق محفوفاً بالمشقّات والعقبات.
فلنتشارك جميعاً في نثرِ بذور المحبّة والعطاء، ولنحاول ما أمكن أن نبلسمَ جراحاتٍ كان لنا نصيبٌ كبيرٌ منها، علّنا بذلك نصنع فرحةً عزيزة المنال، فمن يزرع الوردَ لا بدّ أن يكلّله الشّذى.
التاريخ: الثلاثاء10-8-2021
رقم العدد :1058