الملحق الثقافي:د. دريد عوده *
قد نختلف في تفسير الدين ونجتهد، لكن لا يمكن الاجتهاد في الأخلاق.. وقد نختلف في تفسير الآيات ونجتهد، لكن لا يمكن الاجتهاد في القيمِ والفضائل.. وقد نختلف في تفسير طبيعة الله ونجتهد، لكن لا يمكن الاجتهاد في إنسانيّة الإنسان..
وعندما أقول الفضائل، فأنا أتحدّث هنا عن الحقِّ والخير والجمال، وعندما أقول الأخلاق والقيم، فأنا أتكلم هنا عن أخلاق الحياة وقيمها.
أخلاقُ وقيم الحياة: هي أخلاقٌ وقيمٌ مطلقة، لأن الحياة مُطلقة، وبمجرَّد “تنسيبها”، أي جعلها نسبية، تسقطُ في الموت.
أفسّر: الحياة مُطلقة، أي لا يمكن أن تكون “نُص نُص” باسمِ النَص؛ إمّا أن تكون معها، وللجميع، فتكون أخلاقك أخلاق الحياة.. وإمّا أن تكون ضدّها، فتكون أخلاقك أخلاق الموت.
إنسانيتنا المفقودة هي الجنّة المفقودة، والضمير هو صوتُ الله فينا، صوت إنسانيّتنا الذي إذا ما فقدناه، نصير “حيوانات ناطقة” فقط.
فهل أُنصِّب الضمير الإنساني، في وجه الوحي الإلهي؟!… كلا..
فالضمير هو وحي الله الدائم فينا؛ وحيٌ لا تقطعه ولاية، ولا تختمه نبوّة، ولا محكمات فيه ولا متشابهات، ولا تفسير ولا تأويل، ولا تفقّه ولا اجتهاد.
الضمير هو إنسانيتنا الخالدة، أو ألوهيتنا المستعادة، وهو لا كتب مقدَّسة له، مُنزَلة أو مكنونة: هو كتاب الحياة في كشفها الدائم عن مكنونات الحقِّ والخير والجمال.. هو الدين في الأديان؛ الدين الواحد في الأديان المتعدّدة.
لا توجد نسبيّة في مسألةِ الحياة، بحسبِ عقلكَ وأفكاركَ ومعتقداتك: أن تؤمن بالحياة، يعني أن تؤمن بها للجميع، وإلّا تكون أفكارك، أفكار الموت والعدم، لا أفكار الحياة. بل أقول أكثر من هذا: تكون أفكارك أفكار العبيد، وأخلاقك أخلاق العبيد بالمعنى النيتشويّ للكلمة – Slave morality :.
فأن تصل إلى القتل، إلى إلغاءِ حياةٍ ما، من أجل أفكارك ومعتقداتك الدينية، فهذا يعني أنك عبدٌ لها، وعبوديّة العقل والروح، العبوديّة للأفكار، هي أعتى العبوديات لأنها العدميّة ذاتها.
أن تصل إلى إلغاءِ حياةٍ ما، من أجلِ فكرةٍ أو عقيدةٍ أو مذهبٍ أو دين، فهذا يعني أنك عبد الطوطم؛ أنك إنسان يسوِّقك وثنكَ الفكريّ، عبداً صاغراً في سوقِ نخاسةِ الأفكار وتجارة الأديان.
تتكلّم الأديان كثيراً ضد الوثنيّة والوثنيين، عبدة الأصنام.. حسناً.. لكن، ألم تتحوّل الأديان على يدِ كثيرين، مضلَّلين ومضلِّلين، إلى أعتى وثنيةٍ فكريّة، إلى عبادة أصنام فكريّة، إلى عبادةِ طواطم “وثنيوها” أول أضحياتها: يموتون بأرواحهم أولاً، ثم يموتون بأجسادهم قتلةً مأجورين، وأجرهم في السماء، ومنها.. هذا ما اعتنقوه وصدّقوه.
إن تسخير العقل للعقيدة الدينيّة، يفكّ عقدة الرحم بين أبناء الحياة الواحدة، بل يُحطم رابطة الإنسانية الوثقى، بين أبناءِ الأرض الواحدة.
إنه العقل الدينيّ المستقيل: يستقيلُ من الحياة، ويُقيل.. هو أيضاً، العقل الديني المُستلَب: أفكارُ صاحبهُ تسلبهُ عقلَه وحياتَه، فيَسلب حياة الآخرين، المختلفين عنه في الرأي والتفكير والمذهب والدين، أو حتى الطريقة.
فليست البطولة أن تَقتل، بل أن تُحيي: الساقية التي تروي الزهرة، أقوى بكثيرٍ من النهرِ الذي يجرفها..
هذه هي أخلاق الحياة، التي تمجّدها وترتقي بها باسم إنسانيةِ الإنسان، في زمنٍ يحقِّر الإنسان فيه الحياة، باسمِ “الدين” و”الله”.. لذا قلت إن “الدين” بات في الزمن الرديء، أخلاق موت.
الفاجعة الأكبر من الموت، هي موتُ روح الحياة فينا ونحن على قيد الحياة؛ كأن نموت قبل أن نموت.. تموت فينا روح الحياة، تتلاشى عندنا إرادة العيش والاستمرار، لا نريد أن نحيا وأن نُكمِل المشوار، عندما تضرب الأقدار المشؤومة بتلك العبثية الكاملة، بتلك العدميّة المطلقة، التي معها نفقد البوصلة الأخلاقية والقيمية.
تموتُ فيك روح الحياة، عندما تعرف أن من هو منك، قد نكَّل بك وقتل أهلك، أن من هو من أبناء جِلدتك سلخ عنك أبناء جِلدتك، أن من هو من أبناء جِلدتك سلخ جلدك. عبثاً تسأل: لماذا.. لا تعثر على جواب، أيّ جواب. الإجابة الوحيدة هي خيبة الأمل. تفترّ شفتاك عن إجابة واحدة: الحياة بلا معنى، وبلا غاية.. وعندما تغدو هكذا، تصير موتاً مقنَّعاً.
موت روح الحياة فينا هو ابن خيبة الأمل العميقة، وعندها يصير الموت تحصيل حاصل.
الأرواح الجميلة، هي أنفاسُ الخالق العابقة برياحين الأرض وأريج الحياة، والإرهابيون، لا يعرفون أنهم يخطفون أنفاسَ الله، عندما يقتلونَ تلك الأرواح، (وباسمه!)…
التكفيري، وسواه من الإرهابيّين الظلاميّين، من كلِّ ملّةٍ ومذهبٍ ودين، يأمرون بقتل الإنسان، والأدهى بقتلِ أبناء أحيائهم التي هي وطنٌ مصغّر..
طريقهم إلى “الحياة الأبدية” يمرُّ بالموت.. طريقهم إلى “جنّاتٍ تجري من تحتها أنهار اللبن والخمر والعسل” طريق دمٍ مرصوفٍ، معبَّد بأشلائهم وأشلاء ضحاياهم.
طريقهم إلى “الجنّة” في السماء يمرُّ بجحيمٍ يوقدونه في الأرض؛ هو جحيم أفكارهم السوداء، جحيم الحقد والكراهية والبغضاء، التي التهمتهم نارها، قبل أن تلتهم سواهم.
لكن، إذا مات الإنسان، هل يبقى الدين فعلاً؟!.
*مفكر لبنانيّ يقيم في نيويورك
التاريخ: الثلاثاء10-8-2021
رقم العدد :1058