الثورة أون لاين – ترجمة ميساء وسوف:
لطالما كان للمشروع الأوروبي خطوط صدع، لكنها نادراً ما تسببت في حدوث زلازل، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى ألمانيا التي أثبتت أنها محكّم ماهر في النزاعات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، خاصة خلال فترة المستشارة أنجيلا ميركل التي استمرت 16 عاماً، ولكن مع انتهاء ولاية ميركل الأخيرة في أيلول، هل يمر الاتحاد الأوروبي بهزة، أم سيكون الوضع أسوأ؟.
عندما ركزت أوروبا بشكل حصري على توحيد السوق، كانت خطوط الصدع فيها اقتصادية في المقام الأول، وخلال أزمة اليورو التي بدأت في عام 2009، تعمقت التصدعات الاقتصادية، حيث وجدت العديد من دول شمال منطقة اليورو “المقتصدة” نفسها على خلاف مع جيرانها الجنوبيين “المسرفين”.
لم يوافق أعضاء الاتحاد الأوروبي على أي شيء قريب من آلية التحويل المالي الأوروبية إلا بعد انتشار جائحة COVID-19، ولم تكن خطط الإنفاق القومي في إطار البرنامج خالية من الجدل.
فضلاً عن ذلك، فإن الانقسامات الاقتصادية في أوروبا تسير الآن جنباً إلى جنب مع الانقسامات السياسية المتزايدة، والتي رافقت تحول الاتحاد الأوروبي نحو تكامل أوسع نطاقاً، في حين أنه لا يوجد نقص في الخلافات السياسية بين الدول الأعضاء، والهجرة هي أحد الأمثلة البارزة، إلا أن أبرز الانقسامات تتعلق أولاً بالمادة 2 من معاهدة الاتحاد الأوروبي، وثانياً بالسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي.
تحدد المادة 2 المبادئ التأسيسية للاتحاد الأوروبي: “احترام كرامة الإنسان والحرية والديمقراطية والمساواة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان”. لكن تفسيرها كان مصدر نزاع كبير، حيث كانت بولندا والمجر في قلب الجدل.
فمنذ فوزه الساحق في الانتخابات البرلمانية في عام 2010 ، شن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان هجوماً على سيادة القانون، ما أدى إلى تآكل الحريات المدنية، وتوسيع السلطة التنفيذية إلى حد كبير. وحذا حزب القانون والعدالة الحاكم غير الليبرالي في بولندا حذوه بعد وصوله إلى السلطة في عام 2015، حيث ركز هجماته على النظام القضائي.
بالطبع، اعترف الاتحاد الأوروبي بهذه الاعتداءات، ففي كانون الأول 2017، ذهبت المفوضية الأوروبية إلى حد الاحتجاج بالمادة 7 من المعاهدة، التي توفر آلية لمساءلة حكومات الدول الأعضاء التي تهدد أفعالها سيادة القانون أو حقوق الإنسان أو المبادئ الديمقراطية وكان ضد بولندا وقتها لأول مرة، أما في أيلول 2018، ففعل البرلمان الأوروبي الشيء نفسه ضد المجر، لكن مجلس الاتحاد الأوروبي لم يتخذ قراراً بشأن أي منهما، مدعياً أنه “سيعود إلى هذه القضية”.
في غضون ذلك استمرت الانتهاكات، ففي حزيران 2019 ، قضت محكمة العدل الأوروبية بأن إصلاح الحكومة البولندية المثير للجدل للمحكمة العليا في البلاد ينتهك قانون الاتحاد الأوروبي، لأنه يقوِّض مبدأ “عدم جواز عزل” القضاة، ومنحت المفوضية بولندا مهلة حتى 16 آب للامتثال للحكم أو مواجهة عقوبات مالية.
لكن سجل اللجنة في متابعة مثل هذه التهديدات ليس مقنعاُ بشكل خاص، فقد أكدت أن مخاوف سيادة القانون قد تمنع البلدين من تلقي حصتهما من أموال الجيل القادم من الاتحاد الأوروبي. لكنها أجَّلت بالفعل قرارها بشأن المجر، ومن المتوقع أن تفعل الشيء نفسه بالنسبة لبولندا على الرغم من أن الحكومتين استخدمتا أزمة COVID-19 كذريعة لتشديد قبضتهما.
بدلاً من إحداث موجات قبل الانتخابات الألمانية بوقت قصير، يبدو أن رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين تعلق آمالها على حزب فيدس الذي ينتمي إليه أوربان وحزب القانون والعدالة في الدورة الانتخابية المقبلة، ولكن إذا أرادت ألمانيا اتخاذ إجراء حقيقي لدعم المادة 2، فسيحدث ذلك بلا شك، في الواقع قادت ألمانيا بشكل فعَّال عدم استراتيجية أوروبا لكبح جماح أعضائها غير الليبراليين.
وبالمثل، فإن سجل السياسة الخارجية لأوروبا مخيب للآمال، حيث تتحمل ألمانيا مرة أخرى جزءاً ضئيلاً من اللوم وذلك من تعامل الاتحاد الأوروبي مع تركيا إلى اتفاقه الشامل بشأن الاستثمار مع الصين، الذي تم توقيعه في اليوم الأخير من رئاسة ألمانيا للمجلس الأوروبي، حيث اتخذ الاتحاد عدداً من القرارات المشكوك فيها.
ومع ذلك هناك منطقة واحدة لم تعد ألمانيا تتمتع فيها بنفوذها المعتاد، وهي روسيا، وهنا اتخذت ألمانيا موقفاً واضحاً باتجاه تطبيع العلاقات. وكان الاتفاق الأخير الذي أبرمته ميركل مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للسماح بإكمال خط أنابيب نورد ستريم 2، الذي سيضخ الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا هو رمز لذلك.
وبدعم من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، دعت ميركل الاتحاد الأوروبي أيضاً إلى دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لحضور قمة، وبدلاً من ذلك وافق مجلس الاتحاد الأوروبي مؤخراً على بيان يؤسس لموقف متشدد تجاه روسيا، وأدى الاجتماع الساخن الذي أسفر عن البيان إلى تعميق خط الصدع الأوروبي الرئيسي، الذي يقسم البلدان إلى كتلتين تعكسان تقريباً انقسامات حقبة الحرب الباردة.
الآن وبعد مغادرة ميركل منصبها، يواجه الاتحاد الأوروبي لحظة فاصلة، لحظة لا يسيطر عليها سوى الناخبين الألمان، يفقد الاتحاد الأوروبي الوسيط الأول، وما إذا كان المستشار الألماني القادم سيكون مستعداً أو قادراً على تولي هذا الدور أم لا.
إن الاستراتيجية التي تقودها ألمانيا بالانتظار حتى الأوقات العصيبة تمكن من اتخاذ تدابير يائسة أبقت الاتحاد الأوروبي على حاله، لكنها مكنت الكتلة أيضاً من تجنب اتخاذ مواقف واضحة بشأن القضايا المهمة.
وبغض النظر عمن سيخلف أنجيلا ميركل في منصب المستشارة الألمانية، سيتعين على قادة الاتحاد الأوروبي البدء في اتخاذ قرارات حقيقية وحاسمة.
المصدر:
Project Syndicate