الثورة أون لاين – مها الداهوك:
مع الانتشار الهائل لوسائل الاتصال حول العالم في العقود الماضية تعاظمت السياسات الغربية الهادفة لفرض نظام عالمي جديد يهدف إلى تحويل العالم إلى قرية صغيرة يسهل السيطرة عليها عن طريق عولمة السياسة والاقتصاد والثقافة، وهذه السياسات الممنهجة نتج عنها مخاطر أحاطت بالهوية الثقافية للبلدان المستهدفة بالغزو الثقافي، وهي تعد مقدمة لمخاطر أعظم تحيط بمفاهيم الدولة الوطنية والاستقلال الوطني والإرادة الوطنية والثقافة الوطنية.
ونتيجة لهذا الانفتاح العالمي، وحتمية انتشار وسائل الإعلام والاتصال العالمية برز خطر جديد يهدد قيمنا الثقافية والمقومات الشخصية لبلادنا وهويتها العروبية، حيث يسعى الغرب والولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص لفرض مفاهيم وأنماط تفكير وسلوكيات دخيلة على مجتمعاتنا العربية مثل التطرف والجمود والكبت والانبهار بالغرب، بهدف إقصاء قيم الانتماء والمواطنة لدى الأفراد عبر تأثرهم السلبي بالمجتمعات الغربية، إضافة إلى محاولة تعزيز النزعات العرقية والطائفية في تلك المجتمعات من أجل إبراز الخصوصيات والهويات المتعددة والتعدديات الثقافية بهدف القضاء على وحدة الثقافة، ووحدة الوطن، ووحدة التاريخ، ووحدة المصير.
وقد ظهر ذلك جلياً في الحرب العدوانية التي استهدفت سورية منذ أكثر من ١٠ سنوات حيث عملت قوى العدوان الخارجي على محاولات زعزعة تماسك المجتمع السوري عبر استهداف منظم لحضارة وتاريخ وكيان وهوية الدولة السورية، وذلك عن طريق تعزيز النزعات العرقية وبث السموم الطائفية والأخبار المضللة، ومحاولات العبث بالعقول لخلق حالة من الاحتقان الشعبي وعدم الرضا لدى أبناء الوطن، والتي ستؤدي بدورها إلى مزيد من التدمير والقتل والتبعية والضعف، الأمر الذي سينال حتماً من شخصية الدولة وهويتها ومقومات أمنها ووجودها.
و هنا برزت أهمية “التحصين الثقافي” الذي يشكل درع الحماية من هذا الغزو الممنهج على بلادنا، وهو السبيل لتحفيزنا على استعادة ذواتنا من بين الحطام المحيط بنا.
عملية التحصين الثقافي تنطلق من بناء وعي مجتمعي صحيح، قائم على معلومات موثقة ومعرفة دقيقة لذاتنا الوطنية، وقضايا بلادنا المصيرية، وأصل انتمائنا وهويتنا السورية والعروبية، وترسيخ المفاهيم الوطنية الثابتة من وحدة الأرض ووحدة اللغة والهوية والانتماء و زرع ثقافة المقاومة لدى أبناء المجتمع والإصرار على رفض أي تدخل خارجي في قضايانا الداخلية، إضافة لضرورة التعرف على المجتمعات الأخرى وثقافاتها وسياساتها وحقيقة مواقفها تجاه بلادنا وقضايانا.
كما تشدد عملية التحصين الثقافي على حتمية رفض التبعية الفكرية والثقافية العالمية ومواجهة محاولات تذويب هويتنا الثقافية في بوتقة الثقافة الغربية المعولمة، والتصدي لها عبر تعزيز هويتنا الثقافية الخاصة، والتي تمثل عادات وقيم وأخلاق مجتمعنا السوري والعربي، وكل ذلك في سبيل الدفاع عن كينونتنا وعن تاريخنا الحضاري والثقافي والإنساني.
و هنا لا بد من الإشارة إلى أن التحصين الثقافي لا يعني العزلة عن العالم والثقافات الأخرى، بل يؤكد أهمية وضرورة التبادل الثقافي بين الأمم والمجتمعات، وتوسيع نطاق المعرفة لدى أبناء شعبنا لكي تنمو مداركه ويصبح على دراية تامة بكل ما يحيط بنا، لكن بشرط أن يتم ذلك ضمن إطار الحرص على أن ما نكتسبه من ثقافات الأمم لا يتعارض مع قيمنا وتاريخنا وموروثنا الحضاري.
إذاً لا بد من أن نضع جل اهتمامنا في تعزيز عملية التحصين الثقافي في هذه المرحلة المفصلية من حياة الوطن، بعد حرب مدمرة استهدفت أولاً و آخراً الإنسان السوري، ومحاولة هدم ثوابته الوطنية وزعزعة انتمائه لهذا الوطن، فالفئات التي انجرت خلف هذا المخطط الممنهج كانت فئات معينة ممن غاب عنهم الوعي الثقافي الوطني، واهتز لديهم إيمانهم بموروثهم الثقافي والحضاري، ففقدوا مسلمات الثقافة الوطنية الأمر الذي سهل مهمة الأعداء في اختراق عقولهم واللعب على منظومة القيم والثوابت لديهم، فكانوا لقمة سائغة في فم المتآمرين على هذه البلاد. وهذا ما أكده السيد الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم، حين أشار إلى أن هدف الحروب الحديثة الإنسان قبل الأرض، فمن يهزم الإنسان يربح الحرب، حيث أكد سيادته أن انتصار العدو يتم عندما تقتنع الأغلبية أن المقاومة كذبة كبيرة وأن قوتها وهم، وردعها خيال، ووجودها عبء، وأن ازدهار الوطن هو في انبطاحه، وأن استقلاله هو في استقلاله عن نفسه وشعبه وتاريخه ومحيطه، هنا ينتصر العدو عندما تنقلب المفاهيم رأساً على عقب، وهنا يكمن جزء من المشكلة أيضاً في سورية والتي كانت أحد أسباب الحرب وهو انقلاب المفاهيم، لكن هذا الانقلاب مرتبط بلعبة المصطلحات التي تمتد لعقود إلى الوراء يسير بها الغرب ومع كل أسف نحن في المنطقة كعرب وربما أوسع من المنطقة العربية نسير معهم باتجاه الهاوية حتى نصل لوقت ما تتفتت فيه المجتمعات وتندلع فيها الحروب الأهلية.
كما شدد الرئيس الأسد على أنه من المستحيل الحديث عن المستقبل أو عن مقارعة عدو من دون توحيد هذه المفاهيم بالإطار الذي يكون إطاراً وطنياً بحتاً وهو ما ندعوه بالتحصين الثقافي.
“فالتحصين الثقافي” أضحى مطلباً ملحاً في ظل ما نواجهه من اختراقات خارجية تستهدف اللبنة الأساسية في المجتمع ألا وهو الإنسان.
ولكي يتم هذا التحصين الثقافي بالشكل الأمثل لا بد من استخدام وسائل حديثة تراعي العصر وتعزز ارتباط الفرد بمجتمعه وترتقي بالإحساس بالمواطنة وتساعد المجتمع على الثبات بوجه العواصف الفكرية.
إضافة للسعي من أجل النهوض بالمنظومة التربوية وتطوير وسائلنا الفكرية في معركة بناء الإنسان وإعادة صياغة الرؤى والأهداف واكتساب المعارف والمهارات والقيم التي تسهم في الحضور الأفضل وبتحصين الوطن وبمستقبل أبنائه، ناهيك عن ضرورة الارتقاء بالتربية المنزلية، وفي المدارس لإنشاء جيل مثقف قادر على التصدي للغزو الثقافي والفكري الآتي من الخارج.