الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:
في كتابه “العولمة والديمقراطيّة والإرهاب”، يرى الباحث والمؤرّخ البريطانيّ “إيريك هوبزباوم”، أن التاريخ لم يشهد أبداً، قرناً أكثر حروباً وقتلاً ودمويّة من القرن العشرين، دون أن تتوقف هذه الحروب إلا لفتراتٍ قصيرة، في بقعةٍ هنا أو هناك، وبأن هذا القرن، قد شهد وعلى مدى هذه الحروب، عجز كلّ السلطات العالميّة، عن السيطرة على النزاعات والخلافات السياسيّة المسلّحة، أو عن إيجاد حلّ ناجعٍ لها، وذلك بسبب انشغالها بالعولمة التي وجدها، تقدّمت في كلّ شيءٍ تقريباً، اقتصاديّاً وتقنيّاً وثقافيّاً، وحتى لغويّاً، إلا في المسألة السياسيّة العسكريّة، التي بقيت الدول الاقليميّة، هي السلطات الوحيدة، المتنفّذة فيها..
من هنا، ورغم تأكيد “هوبز” بأن أكثر هذه الدول قوّة وتسلّحاً وهيمنة، هي الولايات المتحدة الأميركيّة، إلا أن ما وثق به، هو أنها قد تشعل الحروب، وتدعم الجماعات المسلّحة.. لكن “ليس ثمّة احتمال أبداً، بأن تتمكّن من السيطرة الممتدّة على الزمان، حتى وإن أرادت هي ذلك…”..
سيظلُّ العنفُ المسلّح طاغياً.. وأحياناً وبائيّاً
ينتقل “هوبز” للحديث عن استمراريّة هذه النزاعات، في القرن الحادي والعشرين، وعن كون إمكانيّة ضبطها، صعبة بل ومستحيلة، فبرأيه أن أميركا ورغم تطوّر وسائلها الايديولوجيّة والسياسيّة والعسكريّة، قد “أخفقت في فرضِ نظامٍ عالميّ جديد، من أيّ نوعٍ كان، عن طريق قوّة أحاديّة، مهما بلغت قوّة علاقاتها، وحتى إن أعانها قوم آخرون (في حلفٍ قصير الأجل لامحالة).. ذلك أن النظام الدوليّ سوف يبقى جماعيّاً، ويعتمد نظامه على قدرة بضع دول، على الاتفاق فيما بينها، وقد بات واضحاً اعتماد ما تقوم به الولايات المتّحدة، من أعمالٍ عسكريّة – دوليّة، على موافقة الدول الأخرى..”
رأى “هوبز” أيضاً، بأن الحروب في القرن الحادي والعشرين، لن تكون أبشع من حروب القرن الذي مضى، من حيث ما تودي به من أرواح، و”العنف المسلّح الذي سوف يظلّ في شطرٍ كبير من العالم طاغياً ولا سبيل للتخلّص منه، أحياناً سيكون وبائيّاً، وبأن رؤية قرنٍ يعمّه السلام، لا تزال بعيدة المنال..”.
الحرب والهيمنة .. في مطلع القرن الحادي والعشرين
عنوانٌ يتناول “هوبز” فيه، ما اعتبره موضوعه الأساسي.. مشاكل الحاضر، بعيداً عن الماضي، منوّهاً إلى أن “من الصعب الحديث عن مستقبل العالم السياسيّ، إن لم نأخذ بعين الاعتبار، أننا نعيش زمناً تسارعت فيه خطى التاريخ، أو عملية التغيير في حياة البشر ومجتمعاتهم، وتأثيرهم على البيئة العالميّة، تسارعاً مذهلاً، فباتت تتقدّم بسرعة، وتهدّد النوع الإنساني والطبيعة معاً، وتدفعهما إلى هاويةٍ لا قرار لها.. “.
يستعرض هنا، الخطوط الأساسيّة للتحوّل التاريخيّ العالميّ، ولاسيما سرعة ثورة الاتصالات، إضافة إلى جوانب اجتماعيّة، كالانحطاط والأفول لفنّ الفلاحة الذي شكّل أسس الاقتصاد الإنساني، وينبوع ثروته، وما رافق ذلك من نشوء المجتمع المدني، أي المدن العملاقة، واستبدال الاتصالات العالميّة المقروءة والمكتوبة، باليد أو الآلة، إلى اتصالات رقميّة.
كلّ هذا، جرى بتسارعٍ واكب العولمة، وكان “أخطر ما نجم عنه، العولمة الاقتصاديّة، ولسببين، أولهما أن ما خلفته عولمة السوق الحرّة، التي خرجت عن السيطرة، من تفاوتاتٍ باتت أسرع من ذي قبل، يشكّل عوالم طبيعيّة للظلم والاضطرابات، والثاني أنه لم يعد ثمّة نظام دوليّ، لقوة عظمى جماعيّة، يقف في وجه اندلاع حربٍ عالميّة، ورغم ما تتمتّع به الولايات المتحدة من قوّة تفوّق عسكريّة كاسحة، إلا أنها ومنذ عام 2002 أنهت رسميّاً، ما كانت ملزمة به من اتفاقيات ومعاهدات، يتّكئ عليها النظام العالميّ، معتمدة على تفوّق آلتها الحربية الضارية، التي جعلتها الدولة الأقدر على القيام بعمليّات عسكريّة، في أيّ جزءٍ من العالم، في مدة قصيرة..”
“يمكنك فعلِ ما تشاء في الحرب، سوى الجلوس عليها”
الأمر هنا يفرض سؤالاً وجد “هوبز” بأن من الضروري الإجابة عليه، وعن إمكانيّة نجاح مشروع سيطرة دولة واحدة على العالم، وعما إذا تمكن التفوق العسكريّ الأميركيّ، من النهوض والتوسّع في هذا المشروع، ومدّه بأسباب البقاء..
نعم، هذا ما سأل عنه، ولكن ليجيب: “كلا.. فالسلاح كثيراً ما أسّس امبراطوريّات، ولكن أسباب بقاء هذه الامبراطوريّات، يحتاج إلى أكثر من السلاح، ولعلّ قولاً مأثوراً لـ “نابليون” يلخّص ذلك، ومفاده :يمكنك فعل ما تشاء في الحرب، سوى الجلوس عليها”..
يذكّر بذلك، ليقدم مثالاً، وهو أن “الفرنسيون أدركوا، أنه حتى مليون مستوطن من البيض، وجيش احتلال قوامه 800 ألف جندي، وهزيمة عسكريّة للمتمرّدين، غير المذابح والتعذيب.. كلّ ذلك، لم يكُ كافياً، لتمكينهم من جعل الجزائر فرنسيّة”…
بكلّ الأحوال، لن تتمكن أميركا من النهوض بهذا المشروع، وليس برأيه لأنها تخلّت عن سياستها في الهيمنة على الشطر الأكبر من المعمورة، والسعي عبر هذه الهيمنة إلى تدمير أعدائها، أو إجبارهم على السير مع نهجها، وإنما” بسبب خوفها من وقوع انفجار نوويّ، لا تمكّنها قوّتها العسكرية المخصّصة للهيمنة فقط، من مواجهته أو تفاديه”..
هيمنتها هذه، تحوّلت من عسكريّة إلى اقتصاديّة، وما لعبه اقتصادها من دورٍ مركزيّ في العالم، جعلها تهيمن على كلّ نواحي الحياة، لاسيما الثقافيّة، معتمدة على جاذبيّة المجتمع الاستهلاكي، الذي ابتدعته وعاشته وروّجت له، إلى جانب الغزو الهوليودي للعالم…
من الناحية الايديولوجيّة، استغلت شعورها بأنها البطل، ونموذج “الحرية” مقابل “الطغيان” الذي اتّهمت به دول استهدفتها، بدعوى أن هذه الدول، تقمع الحرية…
“كيف سنعيش في هذا العالم المتفجّر الخطير؟”
إنه جنون العظمة الذي أصابها، ولم يكُ سبباً في تدمير أسسها السياسية والايديولوجيّة فقط، بل وجعلها تعيش شبه عزلة دوليّة، حتى أنها باتت موضع بغض معظم الحكومات، والشعوب على السواء…
لقد فاقم هذا من خطابها العدوانيّ، الذي أرادت به أن تعيد مجدها، وتبرّر بأنها تعرّضت لتهديداتٍ مزعومة، تهدّد أمنها ومستقبلها العالميّ..
هكذا تتّضح الحقائق، ويدلّ “هوبز” كما كثرٌ غيره، من الكتّاب والمفكرين، بأن جنون هذا النظام، جعله يقود حتى شعبه، إلى انقساماتٍ وأزماتٍ متفاقمة، أدّت إلى قيام البعض من الأميركيين، بمحاولة تحريك وتحريض الشعب الأميركي، ضد عالمٍ خارجيّ، أقنعته بأنه إرهابيّ، لأنها باتت تدرك، بأنه لم يعد يعترف بها، ولا يؤمن باستقلالها وفرادتها وحتى حرّيتها وديمقراطيّتها وامبراطوريّتها..
نعم، جنّ جنون هذا النظام العالميّ، فبات ينشر الاضطراب والضبابيّة والعدوان.. الأخطر، الحروب المدمّرة التي توقدها أطماعه، دون عقلٍ أو أخلاقٍ تردعه عن قتل الحياة وإبادة الإنسان..
“أميركا لا تنشر سلاماً ولا تقدّماً.. بل نزاعات وبربريّة”
يحذّر “هوبز” هنا، وبعد أن يستنكر سائلاً: “كيف سنعيش في هذا العالم المتفجّر الخطير؟”..
يحذّر المفكرين الغربيين المتحرّرين، ألا يصدّقوا أن التدخلات الأميركيّة المسلّحة في الخارج، تتوافق معهم من ناحية الدوافع، أو أنها يمكن أن تقف فعلاً مع حقوق الإنسان.. يحذّرهم، ويطلب من الحكومات، عزل الولايات المتحدّة الأميركيّة، من خلال الرفض الحاسم في المشاركة بأي مبادراتٍ تقدّمها، ويمكن أن تؤدي إلى ضرباتٍ عسكريّة، ولاسيما في الشرق الأوسط، وشرق أسيا..
بعد هذا التحذير، يعاود “هوبز” السؤال:
هل ستتعلّم الولايات المتحدة الدرس، أم أنها ستتثبّث بموقعٍ عالميّ، آخذٌ في الزوال، عبر اعتمادها على قوّة عسكريّة سياسيّة، لا تنشر نظاماً عالميّاً، ولكن اضطرابات، ولا سلاماً عالميّاً، ولكن نزاعات.. ولا تقدّماً للحضارة بل بربريّة، لتستحق أن يقال لها، قول “هاملت:”
“الأيام فقط، هي التي ستُبدي لك ماكنت جاهلاً.. أما أنا فلستُ مضطرّاً لأن أقدّم لك إجابة، لأن المؤرّخين ليسوا لحسن الحظّ أنبياء”.
التاريخ: الثلاثاء7-9-2021
رقم العدد :1062