الملحق الثقافي:جورج إبراهيم شويط:
“أرجوحة العمر من اللاذقية إلى لندن”، هو كتابٌ للأديب القاص، الدكتور “ماهر منزلجي”.. السوري المغترب في بريطانيا، منذ أكثر من أربعة عقود، ويضمّ بين دفتيه مذكرات، أشبه ما تكون بفيلمٍ تسجيليّ طويل، ضمن سيناريو متداخل، يقدّم تصويراً ممتعاً للقارئ، من خلال انتقاله بين محطاتٍ كثيرة، فيها نكهة أدبية خاصة، تلوّنها سرديّة لتفاصيلٍ وأحداثٍ وتواريخ، تجمع بين الذاتيّ والعام الأشمل لمدينته اللاذقية، المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وبين ما جرى في أرجاء المعمورة، في توليفةٍ تأريخية توثيقية جاءت بأسلوبٍ سلسٍ، وعلى امتداد 419 صفحة.
صدر الكتاب، عن “دار فواصل” سورية – اللاذقية – 2020، وينوّع فيه بالكلماتِ، التي تقفز وتكرجُ، بظرافةٍ، ويُحيلها إلى قفشاتٍ ونكزاتٍ وتلميحاتٍ ذكيّة. إنها مذكراته، وهي بذات الوقت ليست مذكراته، هي أرشيف وتوثيق لحياة عامة وشاملة، تعكس لغة الشارع والناس البسطاء، مثلما تعكس نمط العيش في مدن كالقاهرة والإسكندرية واللاذقية ولندن وباريس.
انسيابيّة حركة ومرافئ، ومطارات، ونبض قلب، وتحصيل علم، ودفء عائليّ وإنسانيّ يضجّ بالحياة والحركة الرشيقة. هي رحلة مجانيّة يأخذنا بها معه، حيثما انتقل، أو حلّ، أو ارتحل.. رحلةٌ ممتعة على الورق، عاشها بتفاصيلها، وعشناها نحن، بمتابعتنا لقراءتها، فصلاً فصلاً، وحدثاً بعد حدث..
رحلةُ الولادة على يد الداية (أولغا)، وجوّ الأسرة وحميمية البيت، وطقس الفرح بمولودٍ جديد، ولمّة الأجداد والأقرباء، وبساطة الحياة في مدينةٍ تتقن الغناء على شاطئ البحر مع النوارس، ومع السفن التي تفرغ بضائعها على الرصيف البحري.
أيضاً، رحلة الدراسة في مدرسة الشهداء، وأبي تمام، وجول جمال، الشهيد الذي رسم بدمه لوحة ملحمية في عرض البحر، إبان العدوان الثلاثي على مصر.
بعد هذه الرحلة، هناك رحلة أخرى تقودنا إلى طقوس التجارة، وكلمة الشرف لدى التاجر، الكلمة التي يزن ثقلها ذهباً، في سوق التعامل الصادق.
كثيرةٌ هي الأحداث التي ترافقت، وتمّ تدوينها على ومع (روزنامة الزمن) التي فرفطها الكاتب، يوماً بعد يوم، مع ما عاشه العالم من تبدّلاتٍ ومحطات:
الحرب العالمية الثانية، حرب فيتنام 1955، ثورة 23 تموز1952 في مصر، وسطوع نجم جمال عبد الناصر، الذي لمع في دنيا العروبة.. زيارات عبد الناصر لمدينة اللاذقية، وإطلالته من شرفة مبنى نادي الضباط، وزمن الوحدة 1958، وصاعقة الانفصال 1961، وزيارة الجنرال ديغول إلى اللاذقية في شبابه، قادماً من بيروت 1941، ومقتل جون كندي في تشرين الثاني 1963..
يفردُ صفحات من محطته التعليمية، شاباً، يسعى لدراسة الطب في جامعة القاهرة، وأجواء الحياة في أحياء المدن المصرية، والغنى والتنوع في تلمّس نبض الناس، ولهجتهم المحببة التي التقطها سابقاً، من أغنياتهم وأفلامهم، وطقوس طعامهم وأجواء الفن والثقافة، والنجوم الذين كانت تسعده رؤيتهم، أو حتى أخذِ تواقيعهم على أوتوغرافه. “فؤاد المهندس، فريد شوقي، أحمد مظهر، وسمير صبري، وعمر الشريف، وسواهم، واعتزازه بحضور حفلتين حيّتين لكوكب الشرق (أم كلثوم) في سينما قصر النيل..
يضيءُ أيضاً، على ما كان يدور في المطبخ الإعلاميّ والسياسيّ، وما كان يكتبه “محمد حسنين هيكل” رئيس تحرير “الأهرام”.. كذلك مجلة “صباح الخير” المصرية، ورسوم “صلاح جاهين” الكاريكاتيرية الناقدة الطازجة، ومتابعة “جان بول سارتر” في زيارته للقاهرة في شباط 1967، وتفاصيل حرب الـ 67 ، وأغنية “أصبح عندي الآن بندقية”، التي أبدعها “نزار قباني”، وانطلقت مدوّية، بحنجرةٍ ماسيّة، هي حنجرة “كوكب الشرق”.
تناول كلّ هذا، لينتقل إلى أول رحلة له بالطائرة، والمطارات التي حطَّ فيها، أو أقلع منها، وتجواله في ساحة الكونكورد، وكنيسة القلب الأقدس، وباريس في الخريف، وغابة بولونيا، ورذاذ المطر الباريسي، والجلوس بمقاهٍ، كان يرتادها مشاهير عظام، وقصر فرساي، ومتحف بيكاسو..
تناول أيضاً، كيفية انتقاله للدراسة في لندن، في حين اختار باقي زملاء الدراسة الأولى، في القاهرة، الدراسة في أميركا.
لندن، ومدينة درم، والعمل في المشافي، والانخراط في أجواء الزمالة، وفي غرف العمليات، وتدرّجه في عمله، وأعياد الكريسماس والمغامرات الشبابية، وعلاقاته مع فتيات مدينة الضباب، والسفر في القطارات، وجولته في أدنبرة المدينة الأجمل في اسكوتلندا.. وقصة بيتزا الفصول الأربعة، وفيفالدي ومفاتيح الصول، وادوارد الثامن، الذي ركل العرش البريطانيّ، لأجل أمريكيّة مطلّقة أحبها، واعتلاء اليزابيت العرش في 2 حزيران 1953، وكذلك حضوره اليوبيل الفضي عام 1977 ذكرى تتويج الملكة.
بعد أن تناول كلّ ذلك، انتقل إلى الحديث عن رسالة من والدته تتحدث فيها، بروح معنوية عالية، عن الحرب التي بدأت في 6 تشرين الأول 1973 والغارات البحرية والجوية على اللاذقية، وتطوّع شقيقه رامي في المقاومة لحماية المدينة، وإصدار كتابه الأول “وقف يتفرج مبهوراً” سنة 1997، وظهور رواية والدته الأولى “زمن الياسمين” التي ألحقتها بروايات أخرى، ومجموعة شعرية لشقيقته ندى “قديد فلٍّ للعشاء” 2002، ورحلة والده مع المرض ورحيله 1987، ومُواراته في مقبرةٍ هادئة خاشعة، بجوار “جامع المغربي” إلى جوار جده.
يختم كتابه:
“وتلملم كوكب الشرق أطرافَ الحديث الطويل. تربتُ على كتف الأيام. تذبح السؤال المستحيل بالجواب المستحيل، وتصدح من أعماقها، وأعماقنا، بتلك الروعة الآسرة، ويعيد وراءَها الصدى، وأعيد قلبي وروحي مع الصدى “وعايزنا نرجع زيّ زمانْ/ قول للزمان ارجع يا زمانْ
بطاقة المؤلف:
ولد الدكتور الأديب “ماهر منزلجي” في اللاذقية 1947. تعلم في مدارسها الحكومية، درس الطب في قصر العيني، جامعة القاهرة (1965- 1972)، يعيش ويعمل في بريطانيا، منذ نهاية عام 1972 ..
من إصداراته:
“وقف يتفرّج مبهوراً” و”التباس” و”عالم مختلف” و”طربوش جدي”: قصص قصيرة.
“تصفيق بيد واحدة” و “إغراء”: قصص قصيرة جداً..
“متى يصبح الإنسان شجرة؟” نصوصٌ ساخرة..
التاريخ: الثلاثاء7-9-2021
رقم العدد :1062