الملحق الثقافي:عبد الحكيم مرزوق :
للأديب الناقد الراحل “محمد غازي التدمري” تجربة تمتد لأكثر من أربعين عاماً في النقدِ والبحث الأدبيّ والقصة القصيرة، وقد أنتج حوالي ستة وعشرين كتاباً، في مختلف صنوف الأدب والبحث الأدبيّ.
في آخر لقاء معه، حدّثنا عن تجربته وبداياته والمؤثرات الخارجية التي لعبت دوراً في نمو تجربته، وكيفية التوازن بين حالة الناقد والشّاعر في الإنتاج الأدبيّ، وفيما إذا كان ذلك يسهم في الحدّ من الإبداع على المستوى الخاص والعام، وبعض القضايا والمسائل الأخرى المتعلقة بالإبداع الأدبي.
* نبدأ بالبدايات.. ماذا عنها، وما يليها؟..
** بعد أن تشرّبت حبّ اللغة العربية، وأهمية المطالعة للإنسان، وعلّمني أساتذتي ماذا أقرأ.. وكيف تكون القراءة المفيدة. وبعد أن تعرّفت على أسرارِ الكتابة ومدارسها ومناهجها وأساليبها، كان ثمّة شيءٍ محبوسٍ في أعماقي، يتوق إلى الانطلاق من الداخل، إلى مساحات الورق الأبيض. لم تكن الوسيلة إلى إطلاق ذلك المحبوس في مخزونِ الداخل، غير المحاكاة والتقليد، ثم التوليف، ولذلك كلّما كنت أقرأ قصيدة تعجبني، أحاول تقليدها والكتابة على نسقها، وكثيراً ما كنت أفشل في مثل هذه المحاولات البدائية، لأني لم أكن أملك أدوات الكتابة، ولم تكتمل تجربتي الدراسيّة والمعرفيّة.
كنت كلما شاهدت فيلماً سينمائيّاً رومانسيّاً، أعدت كتابة قصة الفيلم بأسلوبي المتواضع. هكذا كانت مرحلة البدايات التي هي بحاجة إلى أهم شيء، وهو التشجيع الذي لم أعرفه إلا من بعض أساتذتي الذين أدين لهم بالفضل، وعلى رأسهم المرحومان (محيي الدين الدرويش ونصر الدين فارس)، إلا أن العشق المؤزّم لما يعتمل في داخلي، كان دافعي الأساسي، والأهم في ولوج عالم الكتابة التي بقيتُ أُجرّب أجناسها، حتى وجدت نفسي في رحابِ البحث والدراسة والنقد التطبيقي.
*إذا كانت هذه مرحلة البدايات، فما دور المؤثرات الخارجية؟..
** كما قلت سابقاً، كان لدور الأساتذة والمربّين، أهمية كبيرة في تكوين شخصيتي الأدبية، وتنمية إحساسي بأهمية اللغة العربية، وفاعليّة التعبير المجنّح، ولذلك غالباً ما كنت أجلس مدهوشاً في درس اللغة العربيّة، والمرحوم “محيي الدين الدرويش” يحلّق في فضاء ذلك التعبير المجنّح، وهو يشرح نصاً شعريّاً، أو يسترسل في صياغة موضوع تعبير.
لقد كان للأساتذة الذين تربّيت على أيديهم أدبيّاً، دورٌ كبير في تنمية بذرة حبّ الكتابة، ثم تأتي قراءاتي المتعددة في الشّعر والقصة والرواية، فقد قرأت لمعظم الشعراء العرب، منذ الجاهلية حتى يومنا، وتعرّفت على كتابات “طه حسين، والمازني، والعقاد، ونعيمة”، وكلّ ما كان يصلني من مجلاتِ مصر ولبنان والعراق.
هذه القراءات المتنوعة، شكّلت المادة الأولى لفعل التأثّر الخارجي، يضاف إلى ذلك مفرزات الحياة ومرحلة المراهقة وحب ابنة الجيران، والإحساس بأنك ممّيز عن الآخرين بما تكتب، وإن كان معظم ما كنت أكتبه في تلك المرحلة، لم يجد مكاناً غير صفحة رسائل القراء، وردود المحرِّرين التي لم تجعل القنوط يتسرّب إلى نفسي، بالرغم من قسوتها، بل كانت تُشكّل حافزاً قويّاً للمتابعة والاستمرار.. هذا الحافز هو الذي نقل مقالاتي، من صفحة رسائل القراء، إلى صفحاتها الرئيسة.
*هل الانتقال من الشّعر إلى الدراسات النقدية، هو إحساسٌ بالفشل، أم أن هناك أسباباً أخرى؟.
**كأيّ شابٍ ومراهق ومحبٍّ للشّعر، وقارئٌ لقديمه وحديثه، كنت أجرّب كتابة الشّعر، وقد نشرت جريدة الثورة أول قصيدة لي عام 1968، إلّا أن التجربة الشعريّة لم تكتمل، لأنها منقوصة الموهبة، لذلك بقيت التجربة في إطار المحاكاة والتقليد أولاً، ثم بأسلوبِ التوليف الذي تعلّمت أصوله من أَحد الشّعراء، وهو شاعرٌ كان يفكّك مجموعة قصائد في موضوعٍ واحد، وبحر واحد، وقافية واحدة، ويوّلف من مجموع هذه القصائد، قصيدة تملك مؤهلات القصيدة الناجحة. لقد جرّبت هذه الطريقة مراتٍ عدّة، واستخلصت قصائد متينة السبك، إلا أنني لم أقتنع بهذا الأسلوب الذي يجعل الشّاعر يضحك على نفسه وعلى قدراته الفنيّة، قبل أن يضحك على الآخرين، لذلك لم أجد في الشّعر مجالاً لتحقيق ذاتي واستقلالي الإبداعيّ، ولاسيما أن ذلك تزامن مع مرحلة معركة القديم والجديد، التي دفعتني إلى قراءة كتب الدراسات النقديّة المعنية بهذا الموضوع، ما دفعني لأن أدخل المعركة بأدواتي النقديّة المتواضعة، ونشرت في “مجلة الثقافة الدمشقية” مقالاً بعنوان: “كلّ ما هو مُحدث مكروه ومرفوض”.
ما إن نُشر هذا المقال، حتى فتح النقّاد والدارسون على هذا النويقد، أبواب جهنم، وهذا ما جعلني أعيد النظر بأسلوبي النقديّ الذي بدأت أهتم به، بعد أن نصحني أستاذي “محيي الدرويش” الذي كان يقرأ ما كنت أقرمزه من شعرٍ، فقال لي: “دع الشّعر لأصحابه، فأنت مشروع ناقٍد”.. مع ذلك، فإن سوسة الشّعر لم تقتنع، ولاسيما أن الصحف تنشر لي ما كنت أنظمه توليفاً وليس تأليفاً، حتى دفعني الغرور لأن أجمع ما كتبته في ديوانٍ، وبعد أن حظي بالموافقة على نشره، اتّفقت مع صاحب مطبعة الفردوس بدمشق، على طباعة ألف نسخة بثمانمئة ليرة، دفعت منها مئة عربوناً، وأخذت المخطوط على أن أُعيده بعد أُسبوع، وفي لحظةٍ من لحظات التجلّي، أعدت قراءة المخطوط بعينيّ الناقد وأدواته، لأستنتج أن هذا الشّعر تافهٌ لا قيمة له، فاقتنعت يومها بمقولة الدرويش، ولم أُعد المخطوط إلى المطبعة، ولم أُطالبه بالعربون، ورميت المخطوط في أدراجي كشاهدٍ على تجربتي الشعريّة الفاشلة، ولم ألج عالمه إلا في مناسباتٍ شبه نادرة، لأَجعل من الدراسة والنقد هاجسي الأول والأخير، حتى شاءت الصدف أن أجرّب عالم القصة القصيرة جداً، وأدب الأطفال والدراسات الدينية.
* ألا تعتقد أن كون الأديب ناقداً، هو أمرٌ يحدّ من الإبداع على المستوى العام، فكيف على المستوى الشخصي؟.
** النقد وإن كان تالياً للإبداع، كما يصنّفه أصحاب التقسيمات الأدبية في الأجناس الإبداعية، فهو جنس أدبيّ يُشكّل حالة وعيٍّ إبداعية، تملك قدرة تفكيك النصّ، والدخول إلى عالمه وكشفه واكتشافه، برؤيةٍ تحليليّة ناقدة، مستندة على منهجٍ أكاديميّ واضحٍ ومحدّد، والناقد الذي من المفروض أن يشكّل خلاصة ثقافة عصره، لا يمكن إلا أن يكون مبدعاً. لذلك فأنا لا أرى أن النقد يحدُّ من آليّة الإبداع ويؤخرها، والدليل على ذلك أن عدداً من النقاد الجادّين في الوطن العربيّ، هم شعراء وروائيون على درجة كبيرة من الأهمية، لأن الناقد الذي ينقد تجارب الآخرين، سيقف وقفة متأنّية عند كلّ ما يبدعه، وبالتالي فالنقد في مثل هذه الحالة، يشكّل حالة إبداعيّة تقنيّة، تضاف إلى تجربته الإبداعيّة التي من المفروض أن تنتهي كاملة متكاملة، فنياً وإبداعياً، ومن هذا المنطق فإن الأديب الناقد، حالة إبداعيّة متقدّمة يدفع بالإبداع إلى التألق، ولا يمكن أن يكون عامل نسفٍ أو إضعافٍ للأثر الإبداعيّ، الذي ينتجه الأديب الناقد، الفنان، المختصّ، وأقول المختصّ تحديداً وتوضيحاً.
التاريخ: الثلاثاء7-9-2021
رقم العدد :1062