الملحق الثقافي:د.أيمن أبو الشّعر *
«قصة واقعية»..
كانوا يسمونه «الماهر» وهو مهندسٌ شاب، سبّاحٌ بارع، قويٌّ ونبيل.. يعيش قرب شاطئ «يالطا» هذه المدينة الساحلية الساحرة الوادعة. لقد تطوع من تلقاءِ نفسه لإنقاذِ المشرفين على الغرق، من الصيادين أو السياح، بسببِ انقلاب زوارقهم أو نتيجة الأحوال الجوية السيئة.. كان لديه قارب متوازن، صمّمه بنفسه بشكلٍ خاص، ليتحمّل صدمات الأمواج ولا ينقلب، وقد ربط على أطرافه بعض الإطارات الداخلية للسيارات، بعد أن نفخها بما يكفي لتحول دون غرق المركب، حتى لو غمرته المياه، وكان الجميع يفتخر به ويشير إليه بالبنان.
لدى «الماهر» كلبٌ شجاعٌ اسمه «مختار» يحبه الناس كثيراً، لأنه يساعد صاحبه «الماهر» في إنقاذ الناس، قبل أن يبتلعهم البحر، ويمضي معه في زورقِ الإنقاذ نحو الذين يقاومون الموج، حتى بات له مكان محدّد في الزورق، وكان كثيراً ما يعضّ على الحبل، ويقفز إلى الماء ليوصله إلى المشرفين على الغرق، حين لا تجدي حركة صاحبه في قذف الحبل إلى المكان المطلوب، أو المسافة اللازمة، وأحيانا يشدّ الذين انهارت قواهم ولم يعودوا حتى قادرين على الإمساك بالحبل، يشدّهم من ثيابهم عند الرقبة، نحو مركبِ صاحبه ليرفعهم «الماهر»، أو يدفع طوق النجاة نحوهم.. كان منظرهما معاً حين يتجولان على شاطئ البحر، يمنح البهجة في قلوب المارة الذين يحيّونهما حتماً، فقد أصبحا شهيرين في هذه المدينة الساحلية الصغيرة، وكثيراً ما يسألونهما: ماذا؟.. ذاهبان إلى العمل؟.. هل هناك من يجب إنقاذه؟. فيردّ مختار قبل صاحبه، بأن يعوي برنَّةٍ خاصة، ويتقافزُ مرحاً فرحاً بصحبة «الماهر».
ذات يوم كان البحر عاصفاً، وقد لاح من بعيدٍ زورق انقلب بمن فيه، وحملت الريح صيحات استغاثةٍ، فركض «الماهر» ودفع زورقه إلى الماء، فقفز مختار بسرعة إلى مكانه في الزورق، وهو مستعدّ تماماً للمهمة الجديدة التي لا تخلو من مخاطرة، لكن صاحبه قدَّر أن الوضع خطير، فطلب منه أن ينزل إلى الشاطئ وينتظره هناك…
انزعج مختار لكنه أطاع أوامر صاحبه…
مضى «الماهر» لإنقاذ المستغيث، ولفّ الحبل عدّة حلقاتٍ كالعادة في يده، وقذفه نحو المستغيث، ولم ينتبه أن قدمه كانت وسط تتمّة الحبل في الزورق، وقد التفّت مثل أفعى عليها، وجاءت موجة عاتية فسحبته مع الحبل العالق في قدمه إلى البحر، حاول وحاول لكنه لم يستطع الفكاك من الحبل.. خلال دقائق كان «الماهر» قد غرق وابتلعه البحر الغاضب، وكانت الرياح تصفر بمرورها على الأعمدة المُعدَّةِ لبعض الشمسيات على الشاطئ، فتنساب وكأنها موسيقا جنائزية تودع «الماهر» الذي انطلق منقذاً من هذا الشاطئ، ومرّ قرب هذه الأعمدة للمرة الأخيرة نحو البحر…
ظلّ مختار ينتظر صاحبه طويلاً، وأدرك أن البحر ابتلعه.. عوى بصوتٍ حزين جداً، تردّد فوق البيوت القريبة من الشاطئ، وراح يهاجم الموج ويعضّه، والريح تصفر فيزداد ألماً..
مضت عدّة سنوات والناس تعرف موعد مختار مع الشاطئ، فتدلف إلى حيث يأتي كلّ يوم، بنفس الموعد الذي غرق فيه صاحبه، يهاجم الموج الذي ينساح زبداً على الشاطئ، ويمتزج زبد فمهِ الغاضب مع زبد الأمواج المنساحة، وحين يعزف أحدهم في البوق أو الساكسفون، يتذكّر صفير الرياح فيعوي ببكاءٍ مرٍّ، وينظر بحرقةٍ نحو البحر، ويؤكّد كثير من الناس، أن دموعه كانت تنهمر! .
«قصة مستوحاة بتصرفٍ، من قصة واقعية في مدينة «يالطة»، روتها لي البروفيسورة «سفيتلانا» مدرسة الآداب في جامعة «يالطة» أثناء جولتنا قرب الشاطئ، إبان مهرجان تشيخوف الدولي..طبعاً، غيرت الكثير من أحداثها وبنائها الدراميّ، محافظاً على الجوهر، وهي تُذكِّر بقصة الكلب «هاتشيكو» الذي أقيم له تمثال في اليابان، لكنها في تصوّري أكثر تعبيراً عن وفاءِ وارتباط هذه الكائنات المذهلة بصاحبها، والصورة حقيقية لمختار الذي ما زال يعيش في «يالطة» حتى اليوم، ويعوي بأنينٍ إن سمع أحدهم يعزف على الساكسفون، لأنه يذكّره بصفير الرياح في ذاك اليوم المشؤوم!».
*شعر ومسرحي ومترجم
التاريخ: الثلاثاء7-9-2021
رقم العدد :1062