الثورة – ثراء محمد:
يعد التقاعد المبكر إحدى الظواهر الاجتماعية والاقتصادية البارزة في العصر الحديث، إذ يتجه بعض الأفراد إلى مغادرة سوق العمل قبل بلوغ السنّ القانوني للتقاعد، وتتعدد العوامل التي تحفّز هذا القرار بين اعتباراتٍ شخصية وصحية واقتصادية، كما تتباين نتائجه تبعاً لاختلاف الظروف الفردية والسياقات المجتمعية.
دوافع التقاعد المبكر
توضح الخبيرة الاجتماعية فاطمة درويش في تصريح للثورة، أن الأسباب الكامنة وراء التقاعد المبكر متشعبة ومتداخلة، ومن أبرزها: الإرهاق المهني والجسدي: إذ تؤدي سنوات العمل الطويلة وضغوطه المستمرة إلى إنهاك الفرد نفسياً وجسدياً، فيتطلع إلى فترة من السكون والراحة، إضافة إلى الرغبة في التفرغ للحياة الخاصة، حيث يسعى بعض العاملين إلى تخصيص وقت أكبر لأسرهم، أو ممارسة هواياتهم، أو السفر والانفتاح على تجارب حياتية جديدة، كذلك ضعف الحوافز الوظيفية، إذ إنه عندما يفتقر الموظف إلى التقدير أو يشعر بانسداد آفاق الترقية، يفقد دافعيته للاستمرار، علاوة على ذلك فإن للأسباب الصحية حيز آخر، فبعض الأفراد يعانون من أمراض مزمنة أو إعاقات تحد من قدرتهم على أداء مهامهم الوظيفية، وهناك السياسات الاقتصادية والإدارية، فقد تعتمد بعض المؤسسات برامج تشجيع التقاعد المبكر لتقليص النفقات أو لإفساح المجال أمام دماء جديدة في سوق العمل.
فرصة ذو حدين
وتشير الخبيرة درويش إلى أن التقاعد المبكر ينطوي على نتائج مزدوجة بالنسبة للفرد، فمن جهة يمنحه فرصة للراحة واستعادة التوازن النفسي والجسدي، ومن جهة أخرى، قد يثير لديه شعوراً بالعزلة أو فقدان الهوية المهنية التي شكّلت جزءاً من ذاته لسنوات طويلة، كما أن انخفاض الدخل التقاعدي قد يؤدي إلى تراجع المستوى المعيشي، ولاسيما في حال غياب التخطيط المالي، ومع ذلك يمكن أن يشكّل التقاعد المبكر فرصة لإعادة بناء الذات والانخراط في أنشطة جديدة، سواء عبر العمل التطوعي أو إطلاق مشاريع خاصة تتيح للفرد توظيف خبراته السابقة في مجالات مختلفة.
تجربة التقاعد المبكر لها منعكساتها أيضاً على الأسرة والمجتمع بطرق متباينة، فكما تشير درويش، قد تسهم زيادة حضور المتقاعد في المنزل في تعزيز الروابط الأسرية وتكثيف التواصل مع الأبناء، إلا أن هذا التحول المفاجئ في الأدوار قد يولّد توترات داخلية ناجمة عن التغير في نمط الحياة أو الضغوط الاقتصادية الجديدة.
أما على الصعيد المجتمعي، فإن للتقاعد المبكر وجهاً مزدوجاً، فهو من جهة يفتح فرص عمل للشباب ويحد من معدلات البطالة، ومن جهة أخرى يسبب خسارة لطاقات بشرية وخبرات تراكمية، فضلاً عن زيادة الأعباء المالية على صناديق التقاعد وما يترتب عليها من آثار اقتصادية سلبية قد تمسّ الإنتاجية والنمو العام٠
وتختم الخبيرة: إنّ التقاعد المبكر ظاهرة متعددة الأبعاد، تتقاطع فيها الجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية، ولتحقيق توازن بنّاء بين راحة الفرد واستقرار المجتمع، ينبغي أن ترافق هذه الظاهرة سياسات داعمة، وبرامج إعادة تأهيل تساعد المتقاعدين على توظيف خبراتهم في مجالات جديدة، بما يضمن استمرار عطائهم وتحقيق اندماج فعال في الحياة الاجتماعية والاقتصادية بعد التقاعد.