الثورة – سهى درويش:
الطفولة ببراءتها ورمزيتها في كل مجتمع، تؤّثر في قلوب الناس، وتستنفر مشاعرهم بشدة عندما يمس الأطفال الضرر، وما حدث مع الطالب محمد قيس حيدر، الذي تعرض للاختطاف من أمام مدرسته، لم يكن مجرد حادث، بل قضية لامست قلوب كل من سمع بها، ووجّهت الأنظار لتكثيف الجهود لإنهاء حالات اجتماعية سلبية أفرزتها سنوات حرب طويلة، لم تكتف بالهدم والتهجير والتشريد والقتل، بل كانت لها أيضاً منعكساتها الأشد خطورة على التكوين النفسي لبعض الناجين منها، والذين لم يحظوا بالرعاية الاجتماعية الكافية، ما ساعد على ظهور حالات السرقة والقتل والخطف، الذي يعّد أخطرها، لما يشكّله من خوف على المجني عليهم، والذين يسعون لتلبية مطالب الخاطفين تجنباً للأسوأ، ما ساعد على تفاقمها وعدم الخوف من عواقبها .
وأمام ما نشهده فإن الأنظار يجب أن توّجه نحو البحث في حلول ناجعة، تنهي هذه الظواهر، فالجاني كما المجني عليه، هم ضحايا ظروف فرضها الواقع .
خلل البناء الاجتماعي
وأمام هذه القضية، نتوقف عند الأسباب التي قد تدفع بعض الأشخاص إلى ارتكاب هذا الفعل، وهل يمكن تفسير هذه الظاهرة من منظور اجتماعي؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه من وجهة علم الاجتماع، في حوار لـ”الثورة ” مع رئيسة قسم علم الاجتماع في جامعة اللاذقية الدكتورة إيفا خرما، التي أشارت بداية إلى أن ظاهرة” الخطف” تُعد من الظواهر الاجتماعية الخطيرة، التي تعكس اختلالاً في البناء الاجتماعي والقيمي للمجتمع.
ومن منظور علم الاجتماع، لا يمكن النظر إلى الخطف كفعل فردي معزول، بل هو نتيجة لتشابك عوامل اقتصادية وثقافية وأخلاقية ونفسية، تضعف فيها الروابط الاجتماعية وتقل الثقة المتبادلة بين الأفراد والجماعات.
ضعف الرقابة الاجتماعية
عن الأسباب التي تساهم في هذه الظاهرة، أوضحت د.خرما أنه عادة ما تتفاقم هذه الظواهر في الفترات التي تشهد توترات اجتماعية واقتصادية أو شعوراً بعدم الاستقرار العام، ما يؤدي إلى تراجع الضوابط الاجتماعية، وضعف قدرة المجتمع على ممارسة “الرقابة الاجتماعية” غير الرسمية التي تتمثل في العادات، والتقاليد، والوعي الجمعي.
و رأت د. خرما أنه يمكن اعتبار الخطف مؤشراً على هشاشة المنظومة القيمية وتراجع مفهوم الأمان الاجتماعي، وهو دعوة لإعادة بناء الثقة والروابط الاجتماعية من خلال التربية، والإعلام، والمؤسسات التعليمية، وتنمية الإحساس بالمسؤولية الجماعية تجاه الآخر.
وبعبارة أخرى، الحل لا يكون فقط بالإجراءات الأمنية، بل أيضاً عبر إعادة ترميم النسيج الاجتماعي وتعزيز القيم الإنسانية والتكافل الاجتماعي التي تحدّ من سلوكيات العنف والانتهاك.
أسباب وعوامل التفكك الاجتماعي وضعف الروابط الأسرية
أبرز العوامل التي تساهم في هذه الظاهرة، وفق د.خرما، فحين تضعف الأسرة كمؤسسة ضبط اجتماعي أولى، ويقلّ الإحساس بالانتماء والروابط الاجتماعية، تنشأ بيئة تسمح بانحراف السلوك وتقبّل العنف كوسيلة لتحقيق الأهداف.
ولفتت إلى أنه في ظل البطالة وتدهور الوضع المعيشي، قد تتحول بعض الفئات إلى ممارسة الخطف كوسيلة للكسب المادي، ما يعكس تحولاً قيَمياً من العمل المشروع إلى السلوك القهري.
إضافة إلى تراجع معايير الضمير الجمعي، الذي يضعف الوازع الأخلاقي، ويصبح العنف وسيلة مبررة في نظر بعض الأفراد، وخاصة في غياب الرقابة المجتمعية الفاعلة.
وعن دور المجتمع في عدم الاهتمام بهذه الحالة، نوّهت د. خرما بأنه في البيئات التي يسود فيها القلق والخوف، يفقد الأفراد الثقة ببعضهم بعضاً وبالمجتمع ككل، ما يولّد حالة من الانفصال الاجتماعي، تبرّر سلوكيات عدوانية كالخطف، وعدم دراسة الحالات والتعمّق بالحلول المجدية، تبرز هذه الحالات كحوادث عابرة.
ثقافة العنف
الدكتورة خرما رأت أنه في واقعنا الحالي كرّست الوسائل أو المحتويات الإعلامية مشاهد القوة والعنف، ما يؤدي لتطبيع هذه السلوكيات لدى فئات عمرية معيّنة أو جعلها وسيلة “مقبولة” لحل المشكلات، إضافة لغياب الضبط الاجتماعي غير الرسمي في المجتمعات المستقرة، التي تكون فيها القيم والعادات والروابط العائلية خطوط دفاع أولى ضد الانحراف، و عندما تضعف هذه الآليات، تزداد فرص ارتكاب جرائم كبرى كالخطف.
وكذلك تراكم مشاعر الإحباط والاغتراب الاجتماعي، نتيجة شعور بعض الأفراد بالتهميش وفقدان المكانة الاجتماعية، ويلجؤون إلى العنف أو السيطرة على الآخرين كوسيلة لإثبات الذات أو استعادة الإحساس بالقوة.
وعلى الرغم من سلبية هذه الحالة، إلا أنه من الممكن معالجتها والانتهاء منها.
مقاربة مجتمعية شاملة
وختمت د. خرما بأنه من منظورعلم الاجتماع، الخطف في جوهره نتاج لتفكك البنية الاجتماعية والأخلاقية، وليس مجرد فعل فردي معزول، ومعالجته تحتاج إلى مقاربة مجتمعية شاملة، تشمل التربية على قيم الاحترام والتكافل، ونشرثقافة الحوارونبذ العنف، ودعم الفئات الهشّة اجتماعياً واقتصادياً لتقليل دوافع الانحراف.
وختاماً: ظاهرة الخطف ليست مجرد حدث أمني، بل هي انعكاس للمنظومة الاجتماعية والقيمية.
والبحث في الحلول يجب أن يراعي جوانب الحياة الاجتماعية، بدءاً من الأسرة كمؤسسة اجتماعية، وصولاً إلى نشرقيم الإنسانية والاحترام عبرالمؤسسات التعليمية والإعلامية.
وكما نسعى لبناء سوريا الجديدة التي نحبّها، يجب البدء بإعادة بناء الإنسان أولاً، فهو حجرالأساس الذي نعوّل عليه في النهوض المجتمعي بكلّ معاييره.