الثورة أون لاين – سامر البوظة:
بعد مخاض عسير وجولات طويلة من المفاوضات المتعثرة، اختارت المملكة المتحدة في النهاية الخروج من الاتحاد الأوروبي، لتنهي الجدل الدائر وحالة التردد التي استمرت لسنوات منذ التصويت على عملية الانفصال عام 2016, وتطوي صفحة نصف قرن من الانصهار مع القارة العجوز.
وعلى الرغم من مرور عام تقريبا على إتمام “بريكست”, إلا أن تعقيدات هذا الملف لاتزال مستمرة حتى اليوم، والعديد من المسائل الشائكة لاتزال عالقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، ولم يتم التوصل إلى تفاهم بشأنها على الرغم من الاتفاقية التجارية التي توصل إليها الطرفان أواخر نيسان الماضي، أبرزها البروتوكول الخاص بإيرلندا الشمالية، وقضية الصيد البحري التي ظلت “عقدة” تطارد المحادثات لسنوات، ليس بسبب أهميتها الاقتصادية فحسب ولكن بسبب أهميتها السياسية، وهي اليوم تعود إلى الواجهة مجددا لتضفي مزيدا من التوتر على العلاقات بين دول الاتحاد، خاصة بين فرنسا وبريطانيا، العدوان الأزليان اللذان تشهد العلاقات بينهما توترا متزايدا منذ أن صوتت بريطانيا على مغادرة الاتحاد الأوروبي في عام 2016, وساءت أكثر بعد أزمة الغواصات مع أستراليا، واليوم يتبادل البلدان الاتهامات بانتهاك الاتفاق التجاري لما بعد “بريكست” والذي تم التوصل اليه نهاية العام الفائت، لجهة رخص الصيد في المياه البريطانية.
حيث توترت الأجواء بشكل متسارع في الآونة الأخيرة بين باريس ولندن، بعدما قامت فرنسا الأسبوع الماضي باحتجاز سفينة صيد بريطانية قبالة ميناء “لو هافر” الشمالي، قالت إنها دخلت مياهها الإقليمية من دون ترخيص، مع توجيه تحذير شفهي لسفينة ثانية, وجاء ذلك بعد يوم من إعلان فرنسا أنها ستكثف إجراءات التفتيش الجمركي وتعرقل التجارة مع بريطانيا ما لم تفِ بالتزاماتها وتوافق على منح مزيد من التراخيص لصيادي الأسماك الفرنسيين للصيد في مياه المملكة المتحدة، بحسب اتفاق ما بعد “بريكست”, الأمر الذي استفز لندن التي هددت بدورها بتعزيز عمليات تفتيش سفن الصيد الأوروبية في المياه البريطانية، عبر استخدام آلية لتسوية الخلافات نص عليها الاتفاق، وذلك للمرة الأولى ما لم تتراجع باريس عن تهديداتها.
وتنص اتفاقية تنظيم الصيد بعد سريان اتفاق “بريكست” على منح رخص للصيادين الفرنسيين والبريطانيين للصيد في مياه البلدين، وتقول فرنسا إنها بينما احترمت الاتفاقية، وتسمح للسفن البريطانية بالصيد في مياهها البحرية، لم تمنح بريطانيا نصف الرخص المطلوبة حتى الآن، وهذا ما أثار ردود فعل غاضبة في أوساط الصيادين الفرنسيين.
يمكن القول إن التاريخ يعيد نفسه, فالخلاف المستجد حول الصيد البحري يعكس صدى لخلافات أعمق، ويذكر بعداوة دفينة بن جارين علاقتهما غير حميمة على مر التاريخ، وهو ما تعكسه اللهجة الحادة وردة الفعل العنيفة من قبل الطرف الفرنسي, والتي يبدو أنها جاءت نتيجة خلافات تراكمات عديدة أبرزها الصراع على الاستثمارات الخارجية, وورقة المناخ, وأزمة المهاجرين بين البلدين, وآخرها صفقة الغواصات النووية التي أبرمها الثلاثي (الولايات المتحدة، بريطانيا, أستراليا) في إطار الاتفاق الأمني “أوكوس” الذي حرم فرنسا من صفقة الغواصات مع أستراليا بقيمة 89 مليار دولار, وهو ما اعتبرته باريس “طعنة في الظهر”.
وسط هذه الأجواء يبدو أن الأمور ذاهبة نحو التصعيد على الرغم من محاولات احتوائها, وبالرغم من اللقاء الذي جمع الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني الأسبوع الماضي في روما، على هامش أعمال مجموعة العشرين, إلا أن التوتر والحساسية ظلت هي السمة الطاغية على اللقاء, وهو ما انعكس على الملفات العالقة ونقاط الخلاف التي لم تجد طريقها إلى الحل, في ظل تعنت الطرفين وحالة عدم الثقة المتبادلة بينهما, وإذا ما استمرت الأمور على هذا المنوال يبدو أن الأمور ستزداد تعقيدا, ما ينذر باندلاع مواجهة وحرب تجارية شاملة قد تعصف بالاتحاد الأوروبي بأسره, وهو ما يخشاه الجميع.
في النهاية إذا تأملنا قليلاً فسنلاحظ بأن الولايات المتحدة الأميركية هي المستفيد الأبرز من وراء تفاقم الخلافات الأوروبية, فهي المحرض، ومن يقف وراء أي توتر أو نزاع في العالم, لتبقى هي المهيمنة والمسيطرة والمستفيد الأكبر من أي نزاع, والأمثلة كثيرة, ومن غيرها يجيد الاصطياد في المياه العكرة، والأدهى أن الأوروبيين يدركون ذلك ويعرفونه تماما, ولكنهم مرتهنون لأوامر الولايات المتحدة الأميركية ولا يتجرؤون على التنفس دون إذنها أو الخروج من تحت عباءتها, إلا إذا حصلت المعجزة واستفاقوا من سباتهم وقرروا أن يكونوا أسيادا على قراراتهم ومصالحهم, وهو ما يبدو مستحيلا ولا يمكن حصوله, في المدى المنظور على أقل تقدير.
