«يا ظريفَ الطول»

 

الملحق الثقافي:زهرة عبد الجليل الكوسى:

توكّأتْ عليّ بكلّ ثقلها، أخفيتُ إرهاقي عنها، وأنا أحمل بعض الحوائج الضرورية لهذا الرحيل القسري، من المخيم إلى المجهول…
سألتني غاضبة: إلى أين؟..
قلت: لا أعرف، أرض الله واسعة..
قالت: هكذا قال جدك، يوم خرجنا من فلسطين، وحتى الآن لم نرجع…
قلت: والآن لن نعود إلى المخيّم.. اطمئنّي..
قالت: لِم.. بماذا أخطأنا.. ليتنا نموت ونرتاح..
قلت: غلطتكم يا جدتي، هي هجرتكم من فلسطين.. والله أنتم سبب تعتيرنا وغربتنا وقهرنا، وعيشتنا في المخيّمات..
قالت: معك حق.. ليتنا متنا ببلادنا ولم نخرج منها. قالوا يومها، بأن خروجنا لن يستمرّ سوى أسبوع، وسنعود بعدها.. خافوا على عرضنا..
قلت: كرمى لله لا تقهريني أكثر.. خافوا على العرض ونسيوا الطول.. الأرض هي العرض يا ستي، وغير ذلك كلام فارغ..
ردّدتْ بصوتٍ خافت وحزين: خافوا على العرض ونسيوا الطول، وبدأت تنتحب وتدندن:
يـا ظـريف الطــول وقـّف تقلّك
رايح ع الغربة وبلادك أحسنلك
خايف يـا ظريف تـروح وتتملّك
وتعـاشر الغيـر…. وتنساني أنـا
كان الطريق مزدحماً بأرجلٍ مضطربة، لا تقوى على المسير، تجرّ أذيال خيبتها، والعمر الذي مضى، مكبّلة بسلاسل الريبة والحذر من سرابِ الغد، كأنها تركلُ كلّ آثارهم، التي غرسوها منذ عشرات السنين، تتخبّط وهي تشيّع آخر أملٍ لها إلى مثواه الأخير، كلّما اقتربنا من تخوم اللاعودة، الذي يشبهنا ببعده عن زقزقة الأرصفة، والنوافذ التي أُغلقت بإحكامٍ على الذكريات..
الوجوه تعلوها صفرة العدم. والرجاء اليائس من السّماء، مكفهرّة وبلا ملامح، بعد أن وُأدت بعضها في غرفٍ باردة هناك، وعلّقت بعضها الآخر على جدران، كانت دافئة لعقودٍ طويلة..
كنت ألتفتُ إلى الخلف، بين فينةٍ وأخرى، أسترقُ النظر إلى بداية الطريق الذي أحفظه عن ظهر قلب، وهو يحمل أيام الصبا والشباب.. لم أتمكّن من ذلك، فقد حجبتْ رؤوس الناس رؤيتي، تيبّست غصّة الوداع الأخير في حنجرتي، شعرتُ كأني بكماءٌ منذ الولادة!.
حاول دبيبُ الجرح إيقاظ صوتي، وأنا أتأمّل ملصقات الشهداء الشاحبة على جدران الأبنية، وأسمعهم يصرخون بوجوهنا:
«ارجعوا يا أحبّة.. بالله عليكم لا تغادروا، فديناكم بدمائنا، لتبقوا بكرامة الأمل أحياء!..
الذهولُ والعتب يقطّر من عيونهم. الدخان يتصاعد من احتراقهم، مطر شباط المنهمر بغزارة، لم يطفئ غضبهم. الحرائق طالت روحي، وأنا أعبُّ رائحة الأبنية المزدانة بهم، وخربشات العشّاق التي كتبوها على الجدران، في قمّة وجدهم:
ـ اذكريني إن عدتُ شهيداً، لا تنسيني!..
ـ أحبك يا مجنونة…
ـ قادمون يا فلسطين …
ـ لا للعملاء.. لا للخونة.. لا لتجّار الدين..
ـ عهداً يا شهيد.. سنتابع المشوار..
بحثتُ عن صرخةٍ مدوّية، لم أجدها، غارت في أعماقي السحيقة.. اعتذرتُ منهم بقلبٍ مرتجف..
ـ سامحونا، فنحنُ لا نستحقّ الحياة هنا، المنفى أرض المفاجآت الصاعقة، تشبه الماس الكهربائي، قاتلة، ولا يهمّنا أن نعرف أين الخلل بعد الموت !!
ـ سامحونا، لأننا تركناكم وحدكم، ولن نصفّف الورد فوق مقاماتكم المقدّسة..
ـ أيها المصلوبون على هزيمتنا بلا ندم: أعيننا لن تحرسكم بعد اليوم، ولن تعرفوا أسماء موتانا، ومن خانكم، ومن رفعَ الراية البيضاء !..
– سامحونا لأننا لن نحيا بعدكم، كما أردتم، كنتم عزّتنا وهويّتنا وشعارنا، وأحلام الصبايا في المخيم، واليوم يؤّرخ لميلاد ذكرياتكم!..
اعذرونا، فالوطن ليس حلماً جميلاً ينتهي عند اليقظة، بل هو حقيقة تلوحُ عند انبلاج الفجر ..
هذا المُدرك أكّدته الرياح العاتية، التي كانت تدفعنا بقوة، للخروج نحو مصائرنا المجهولة، بلا رحمة، أشبه بالطردِ المهين..
رنينُ هاتفي أيقظني من غلياني، لا أعرف ماذا أقول لك، هي هجرة موجعة نحو اللامكان واللاوجود.. عندما سألني صديقي: أين ستذهبين؟. رفضت دعوته لاستضافتنا، ريثما تهدأ الأمور، قائلة:
ـ علينا التعوّد على هجرتنا الجديدة، وقسوتها يا صديقي!..
عبّدتْ دموع العجائز الطريق، إذ كانوا أكثر سخاءً في هذا الرحيل..
ازداد الألم والقهر أكثر، عندما مررنا بجثّة شابٍ مرميّة بالقرب من فرن «أبو فؤاد» على شارع اليرموك… بدا عليها التنكيل بشكلٍ فظيعٍ، مرّت والداته ولم تعرفه، دعت لأمّه وأهله بالصبر والثواب وتابعت المسير، وعندما علمت أنه ابنها فيما بعد، فقدت عقلها..
تجاوزنا حدود المخيّم بصعوبة، وسط حيرة وازدحام كبيرين..
استقرّت بنا الأيام في منطقة بعيدة عن المخيّم، ليس فيها رائحة الميرمية ولا الزعتر، ولا كعك العيد، ولا السهر أمام البيت لآخر الليل، مع جدّتي شهرزاد الحكايات الشائقة، عن فلسطين..
المكانُ ينكرنا هنا، كما ننكره والزمان !!!
تسألني كلّ يوم: أين ذهب الجيران؟!.. الناس ضاعوا أو نسيونا؟!.. لِم لا أحد يدقّ الباب علينا؟..
تترجّى بأن أغيدها إلى المخيم، فأحاول تغيير وجهة تفكيرها، قائلة:
ـ هيا يا جدّتي، تعالي نغنّي: يا ظريف الطول..
أداريها وأغنّي معها، هي مقطع وأنا مقطع، وفي بعض الأحيان أصبح مطربتها المفضّلة، تختار لي ما تريده من عتابا وميجانا، وأكثر ما تحبّه بصوتي أغنية: يمّا موال الهوى.. يمّا مواليا.. ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّا..
كم بلعتُ دموعي وعبراتي، وأنا أغنّي لها، كي لا تفقد ثقتها بقوّتي التي تمدّها بالأمل..
كَرَهتْ الشقة التي استأجرناها.. اختارت الشرفة المطلّة على الشارع، مكاناً لحنينها وانتظارها، نتشاجر عند اقترابِ موعد الطعام، لإصرارها على تناوله في الشرفة، الشقة سجنٌ بالنسبة لها.. باتت الشرفة غرفة نومها المريحة أيضاً..
مرّت الأيام بطيئة وعصيبة، بين ترقّبٍ وأحلام جدّتي، وحقيقة موجعة أعرفها جيداً، ولا خيار سوى الرضوخ لمرارة الواقع، والتأقلم مع كلّ الأشياء التي لا تشبهنا، وتنافس حرقة دموعنا، إلى أن جاء العيد وجاءت معه حقيقة الغياب الأبدي..
جدّتي لم تتقبّل فكرة عدم وجود مقبرة ولا قبور، الحدث أكبر من احتمالها، وهي التي كانت تخطّط أن تهرب منّي، عند زيارتنا للمقبرة، في أول يوم من أيام العيد، كما أخبرتني في لحظة غضب..
سألتني: أين ذهب الموتى يا ستّي؟!..
قلت: طاروا في السّماء.. قد يصلوا فلسطين يا ستّي..
قالت: قد يصيدوهم، هناك ممنوع دخول أحد منّا..
قلت: هم وحظّهم، إذا صادوهم يموتوا، ويعودوا للطيران في السّماء…
بعد ذلك، لا أعرف ما الذي جرى لجدّتي، أصبحت قليلة الكلام والأسئلة، تأكل لقيمات عندما أكذب عليها، بأن عودتنا قريبة إلى المخيّم..
ساءت حالتها.. الطبيب وصف لها الدواء اللازم، الذي ترفضه في أغلب الأحيان..
توالت الأيام مُرّة، مع حشرجة في الصدر، وفي اللحظة التي قرّرتُ فيها إرغامها على تناول الطعام، وجدتها شاخصة العينين، على الطريق العام، وقد تيبّست يداها على العكّاز…

التاريخ: الثلاثاء16-11-2021

رقم العدد :1072

 

آخر الأخبار
وسط احتفالات جماهيرية واسعة.. إطلاق الهوية البصرية الجديدة لسوريا الشيباني: نرسم ملامحنا بأنفسنا لا بمرايا الآخرين درعا تحتفل .. سماءٌ تشهد.. وأرضٌ تحتفل هذا هو وجه سوريا الجديد هويتنا البصرية عنوان السيادة والكرامة والاستقلال لمستقبل سورية الجديدة الهوية البصرية الجديدة لسورية من ساحة سعد الله الجابري بحلب وزير الإعلام: الهوية البصرية الجديدة تشبه كل السوريين خلال احتفالية إشهار الهوية البصرية الجديدة..  الرئيس الشرع : تعبر عن سوريا الواحدة الموحدة التي لا ت... رئيس اتحاد العمال: استعادة الدور النقابي المحوري محلياً وعربياً ودولياً تطوير البنية التحتية الرقمية بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي تمثال الشهداء..  من ساحة سعد الله إلى جدل المنصّات.. ماذا جرى؟  الفرق النسائية الجوالة .. دور حيوي في رفع الوعي الصحي داخل المخيمات إجراءات لتحسين خدمات المياه والصرف الصحي في بلدة حلا مفاعيل قرار إيقاف استيراد السيارات المستعملة على سوق البيع باللاذقية  الاستثمار في الشركات الناشئة بشروط جاذبة للمستثمر المحلي والدولي  سوريا.. هوية جديدة تعكس قيمها وغناها التاريخي والحضاري الهوية البصرية للدولة.. وجه الوطن الذي نراه ونحسّه  تطبيق "شام كاش" يحذر مستخدميه من الشائعات تأهيل مدرسة "يحيى الغنطاوي" في حي بابا عمرو أهال من جبلة لـ"الثورة": افتتاح المجمع الحكومي عودة مبشرة لشريان الخدمات فتح باب الاكتتاب على مقاسم جديدة في حسياء الصناعية