الملحق الثقافي:وجيه حسن:
الحق يُقال ودائماً: إنّ المشتغلين بحرفة الكتابة والتّعبير والشّعور، أرباب رُخَص الأقلام، أصحاب الهمّ والغمّ والمعاناة وقلّة ذات اليد، «خاصّة في دول العالَم الثّالث» هم من أناسِيِّ هذا المجتمع ومن صُلبه، خرجوا من صفوفه ومن تربته، وهم يكتبون عنه وعن معاناة ناسِه، وما يُلاقونه هذه الأيام من جهدٍ وعنتٍ واصطبار، مردّ ذلك كلّه إلى الظّرف الصّعب المُتراكب، وإلى حجم المعاناة الزائدة على الحدّ، التي يُلاقيها المواطن/ الإنسان، بسبب مفاعيل هاتِهِ الحرب الظالمة الضّروس، التي تأجّجت نيرانها في بلدنا العزيز، على مدى أحدَ عشرَ عاماً، على حين غفلة، «ويا غافل لك الله»، والتي صبّ المجرمون «الجنكيزيّون» خلالها حِمَمَ حقدهم، وقنابل جبروتهم على بلدنا المُسالم، مُتذرّعين بحججٍ كاذبة باطلة هي أوْهَى من بيت العنكبوت، وهم في هذا كلّه، وفي سواه، مُراوِغون مُتثعلبون نازيّون..
حيال ذلك كلّه، فإنّ من الوفاء لتراب الوطن، وسمائه الطهور، وبشره وشجره، أن يكون الكاتب / الأديب شعلة حيّة في المجتمع، يكتب عن مُعاناة الناس، ومواجع قلوبهم، وعمّا يقع للوطن من انتهاكاتٍ وهزّاتٍ وويلات وأحداث.. والمجتمعُ المُفضّلُ لهذا الكاتب أو ذاك – حين يكون كاتباً ملتزماً محترماً، صادقاً مع نفسه، ومع قلمه أوّلاً وأخيراً، ومع قرّائه – ينحصرُ في الاندماج بجمهرة الكتّاب والأدباء، والالتقاء بهم عن قربٍ قريب، كي تكون الرّؤى متقاربة أو منسجمة، بل الاندماج يكون أوّلاً مع هموم الناس وآلامهم ومعاناتهم، وما أكثرَها اليوم، وما أبهظَها..
وعلينا في هذا السّياق، أن نقرّ بصوت جهوريّ متّحد، أنّ الأدباء المخلصين، والمثقفين الحقيقيين، والكتّاب الصّادقين، في بلدنا وفي غيره من البلدان، هم جميعاً بلا جِدال (ملحُ الأرض وذهبُها وفضّتُها) بآنٍ معاً..
ومَنْ يتعالَى على هذا الكَلِم، وينكره أو يدحضه، ويعدّهُ طرحاً سخيفاً من سَقَط المتاع، فموقفه عندئدٍ يكون كَمَنْ يحجب الشمس السّاطعة «رائعة النّهار» بغربال متهرّئ مثقوب، أو بقماشٍ شفيفٍ أو سميك لا فرق..
ثمّ أليس الكاتب الحقيقي، ضميرَ الأمّة أيّة أمّة؟.. ومادام يكتوِي بنار الظلم والاعتداء والهمجيّة والقهر، فإنّه سيظلّ يكتب عن معاناته الكفاحيّة، ومعاناة شعبه بآنٍ معاً.. لكنّ الغريب أنْ تُفرِز الطبقات الفقيرة مَنْ ينقلب عليها، كاتباً كان أو غيرَ كاتب!..
والكتابة الصادقة الساطعة، لم تكن في يومٍ من الأيام مرآةً تجوبُ الشوارع، بل أصبحت أداة توعية وتطوير، ومصباحاً ينير الطريق، من أجل استشراف المستقبل، وهي «أي الكتابة» بالطبع مهمّة «الأدب الطليعي»، الذي يتجاوز «الأدب الصّدى»، والذي يكتفي بعكس الواقع، أو بالتّصفيق للمنجزات، حتى تحمرّ وجنتاه واليدان، وتنتفخ أوداجُه كذباً ورياءً..
إنّ دوْر الأدب الحقيقي، أنْ يكون صوتَ الحقّ والعدل والخير والجمال، وكلّ القِيم الإنسانية في عالَم الغاب.. والكاتب، مُطلَق كاتب، إمّا أنْ يركب الموجة الطاغية، ويصبح واحداً من قِرَدَة «السِّيرك»، وانتهازيّاً مثل آلاف الانتهازيين، الذين يوظّفون مؤهّلاتهم في خدمة طبقة معيّنة، تلك التي تحقّق لهم بعض تطلّعاتهم الأنانيّة الضيّقة، ناسِين أو مُتناسِين الجماهير الذين خرجوا من صفوفها، أو يُؤثر الصّمت، فيحترق بنار القهر والمُعاناة والإهمال والتّعتيم، حين يرفض أن يُتاجِر بقِيمه الفكرية، ومبادئه السّامية، وليس غريباً أنْ تفرز الطبقة البورجوازية أو الرّأسمالية وُحوشاً من النوع البشري..
وفي هذا المضمون، ألم يقل الروائي المغربي «عبد الكريم غلّاب»، في روايته الموْسُومة بـ «المعلّم علي»: «إنّ الله لم يحكم علينا بأنْ نظلّ عبيداً، نصنع الجلودَ الطيّبة، ليستغلّها الأثرياء، أمّا نحن فنظلّ نسيرُ عُرَاة»!!
* * *
وهذا «تشارلز ديكنز»، الرّوائي والناقد والقاص الإنجليزي، على سبيل التّمثيل، قد كان بحقّ شعلة حيّة في مجتمعه البريطاني، إذْ كاد الرّجل أنْ يقتل نفسه من الإجهاد القاسِي، والتّعب المُضنِي، ففي سنة واحدة فقط، كتبَ ثلاث روايات، وحرّر مجلة، وفي أوقات فراغه أنتجَ تمثيلية غنائية، ورواية ساخرة..
ويُقال على ألسنة عددٍ من الدارسين والباحثين: إنّ إنجلترا قد أنجبت أعظم فنّانَيْن عالَميَيْن هما: «جوشوا رينولدز»، «رسّام الجسم البشري»، و «تشارلز ديكنز»، الرسّام الكاريكاتيري للرّوح الإنسانية، الذي قال قولته الشّهيرة: «أنا أكتبُ للنّوع الإنساني فقط»…
ففي ولاية نيويورك، أوقفته امرأة عابرة سبيل في وسط الشارع، لتقول له بصراحة ومكاشفة تامّتين، ومن غير تهيّب أو أدْنى خجل:
– أتوسّل إليك يا مستر «ديكنز»، أنْ تسمحَ لي بِلَمسِ اليد، أو تقبيلها، هاتِهِ اليدِ التي ملأت بيتي بالأصدقاء..
نظر إليها «ديكنز» نظرة ودّ ونداوة وسماحة نفس، ثم تابع سيره، مُظهِراً معها سريرته المازِحة، ونفسه الشّفافة الرّقيقة..
وحسب رأيه وفلسفته، فإنّ الحياة كلّها، يمكن أنْ تتحوّل إلى مهزلة، إذا نظر المرء إليها بالأسلوب الصّحيح، لا المقلوب..
وذات مرّة صاح الروائي الإنجليزي «وليم ثاكيري»، مؤلّف رواية «سوق الغرور» قائلاً:
«ما الفائدة من ركضي خلفَ ذلك الرّجل، يقصد «ديكنز»، أو من جَرْيِي بجانبه؟.. أنا لا أقدر على مَسِّهِ، بل ليس بوسعي ومستطاعي التقرّب منه بتّاً»!!
أمّا «ديكنز»، فيقول مادِحاً نفسه بِتواضُع جمّ: «لم أرَ مثل هذه المحبّة الشخصيّة التي انهالت عليّ من كلّ حدبٍ وصوب، بسبب كتاباتي العفوية الصّادقة المُؤثّرة»!
وفي أحد اللقاءات معه، يقول: «إنني سأتلاشَى كغيري من هذه الليالي المُضْنِية، وأنا أشعر من كلّ قلبي وكياني بالمحبّة والاحترام والشّكر في وداعِي لكم، قرّائي الأحبّاء»..
وهذه «ماريا بيدنيل»، ابنة مدير أحد البنوك البريطانية، تقول عن «تشارلز ديكنز»:
«إنّ ديكنز شاب صغير، لطيف، لكنّه – بكتابته للقصص – لن يتمكّن بأسلوبه، وطريقة حرفته من القيام بشؤوني، والاضطلاع بمعيشتي»..
لذا فقدْ فقدَ «ديكنز» «ماريا»، إذْ رفضته وتزوّجت شخصاً غنيّاً، أصبح خلال سنواتٍ قليلة فقيراً مُعدَماً، على حين أنّ «ديكنز»، استمرّ في كتابة قصصه ورواياته، ليصبح من أثرى الرّجال في بريطانيا..
* * *
ويقول الرّوائي المغربي «البكري أحمد السباعي» من بؤرة الهمّ والوجع:
«لقد شبعت أراضينا العربية تدجيلاً ونفاقاً وشعوذة، وعطشت دماً ونضالاً»..
* * *
زبدة الكَلِم: الكاتب الحقيقي، الكاتب المُلتزم، الكاتب الصّادق، يصنع من البراعم زهوراً يانِعَة، يقدّمها للمجتمع الكبير: الوطن، برغم جبال المُعاناة، وأكْثِبَة الهموم الضّاغطة…
التاريخ: الثلاثاء16-11-2021
رقم العدد :1072