تكاثرت في الآونة الأخيرة المسابقات السريعة التي تختصرها إجابة أسرع، وهي تنتشر على مختلف الفضائيات، والترويج لها من خلال الإعلانات يجري على قدم وساق.. مسابقات تدفع الأموال بسخاء لكل مَنْ يفوز بالإجابة على السؤال، وذلك بعد أن يستخدم تطبيقاتها على شبكة المعلومات، أو أنه يدخل إلى ميدانها باتصال هاتفي مباشر، أو برسالة قصيرة، شأنها شأن ورقة اليانصيب التي تخيب كثيراً قبل أن تصيب بعد مئات المحاولات الفاشلة.
وبعيداً عن الموقف الاخلاقي، أو القيمي الذي لا يرحب بفكرة جني الأموال دون مقابل لها من الجهد، والعمل، والتشجيع على استسهال مساراتها، فإن من الناس مَنْ يطارد هدف الفوز المريح ولو كان في المريخ، وهو يبني قصور الأحلام التي قد تهدمها نفخة هواء بينما يتنقل عبر الفضائيات ملاحقاً لآخر الإعلانات عن تلك المسابقات كي لا تضيع منه فرصة وهم الربح الوفير، وحلم العيش الرغيد.
قد لا نعترض على المسابقات لو كانت لغير هذه الغايات، أو لو أنها كانت تأتي بأسئلة لها معنى، أو فائدة ما، إلا أنها تختار الهزيل من الأسئلة التي لا مكان لها من الإعراب، ولا تضيف إلى مَنْ يستمع إليها شيئاً ما ينطوي على معلومة، أو قيمة، أو أياً مما يفيد، إذ ماذا سيضيف في قاموس الثقافة أن يعرف المشاهد ما اسم آخر أغنية لمطربٍ، أو مَنْ هو الممثل الذي مثل مع زميله فلان في أحد الأفلام؟ وقس على هذا المنوال من الأسئلة الهابطة التي لا هدف لها سوى مجرد السؤال الذي تغري سهولته بمشاركات أكبر.. ومما يثيرالدهشة أيضاً أنه ماذا سيضير تلك الجهات التي تتبنى المسابقات السريعة لو أنها غيَّرت من أسلوبها، وطورته، فاختارت أسئلة مما يفيد ولو كانت سهلة، والسهولة لا تعني التفاهة، تتبعها أجوبة من الثقافة العامة مثلاً، أو في اختصاص ما يدفع المتسابق لأن يبحث عن الجواب الصحيح له سواء اختبأ في كتاب، أو وجده على صفحات شبكة المعلومات التي تكتظ بذخيرة لا تنفد.. بل ماذا يضيرها إذا ما كانت المسابقة بهدف التثقيف، والتوعية، وتبني نمطاً جديداً من التفكير الذي أصبح من ضروريات العصر الحديث، إلى جانب الهدف الأول منها الذي تتقن لعبته مثل هذه الجهات ألا وهو جني الأموال الطائلة، وحتى يكون المقابل المادي للفائز هو نتيجة الجهد المبذول في العثور على إجابة صحيحة قابلاً للاحترام إلى حد ما مهما كان هذا الجهد ضئيلاً، ومتواضعاً.. أما استسهال الحصول على المال عن طريق سؤال باهت لا يحمل أي معنى فهذا مما يثير فعلاً السؤال أن: لماذا؟.
ومن جهة أخرى فإن لمثل هذه المسابقات التي تُختصر بإجابة واحدة انعكاسات مختلفة فهي إضافة إلى التشجيع على الربح السريع الذي يتحقق بضربة حظ فإنها قد شجعت على ابتكار ما يشبهها، وعلى منوالها كاليانصيب الإلكتروني، ولكنه هنا للنصب، والاحتيال لا لكسب المال، وبالتأكيد له ضحاياه ممن يصدِّقون، ولا يدققون.. بينما بالإمكان استبدال كل ذلك ببرامج تنموية مدروسة تعزز القدرات، وتكون لها جوائز مالية حقيقية لا وهمية، بعيداً عن فكرة الحظوظ العاثرة، والأخرى السعيدة، لترتفع بالثقافة ولو في حدها الأدنى، ولا تهبط بها في مجتمعات نامية هي أحوج ما تكون للارتقاء بأبنائها علماً، وثقافةً، واطلاعاً، وسِعةً في أفق التفكير، والطريق في هذا الاتجاه رحبة، وعريضة، ولها منافذ عديدة.. والأخطر في هذا الأمر أن مثل هذه المسابقات تأتي في أوقات يعاني فيها الناس من ضوائق اقتصادية قد تكون خانقة، بينما تقلّ فرص العمل، والتعليم، وترتفع نسب البطالة، والأمية، لتجتذب إليها زبائنها ممن يخسرون أكثر مما يفوزون.
أما فرص الحظ الضائعة إذ تحقق الحسرة لدى الخاسر فإنها لا تتوانى في أن تعمق سطحية التفكير، ولا تُكسب أية قيمة إيجابية.. فهل من معايير محددة، وضابطة تعود بحسن الأداء يمكن مطالبة وسائل الإعلام بها إذا ما اعتبرنا تجاوزاً أن المسابقات هي نوع من الخدمات.. ولكي يتجاوز المتسابق المتلهف للفوز حيز السخرية من ثقافته الضحلة.. وحمايته في الوقت نفسه من حلم الثروة الزائف، واللعب بمشاعره، وأحلامه، وبيعه الوهم؟.
أمر ليس مقتصراً على الكبار، بل إنه وصل أيضاً إلى عالم الصغار.. فأي نموذجٍ، وأي مثال!!.
(إضاءات) ـ لينــــــا كيــــــــلاني ـ