الثورة – هفاف ميهوب:
لا يكتفي البريطانيان “أندرو جرانت” وزوجته “جايا جرانت” المعروف عنهما اهتمامهما بالإبداع التعليمي والمؤسّساتي، بتوثيقِ المحاضرات التي استمرا في إلقائها لما يزيد عن خمسة وعشرين عاماً، وفي أكثر من ثلاثين دولة في العالم.. لا يكتفيان بذلك، بل ويقومان أيضاً، بتأليف كتبٍ تتعلّق باختصاصهما التوجيهي، ولكن بطريقةٍ تفرّدا في استخدامها، ولا سيما في كتابهما “من قتل الإبداع؟”.. حيث يطرحان الحالة، ويقومان بتشريحها على طاولة التحقيق، سعياً منهما لتحسين الأفكار والأنظمة والحلول، قبل وقوع الكارثة، أو كما سمّياها “موت الإبداع”.
إنها الطريقة التي استخدماها، بعد أن وجدا الإبداع يعاني من الاحتضار الذي سببه القتل، وبعد أن قرّرا لعب دورِ المحقّق الذي يسعى لمعرفة هوية المشتبه بهم، واستجوابهم ومعرفة دوافعهم، وصولاً إلى القاتل، أو مجموعة القتلة المشاركين بالجريمة. جريمة قتل الإبداع التي وإن انتهت بحالة موتٍ لا تسرّ أبداً، إلا أن “الخبر السار هنا، هو أن موت الإبداع، عكس الموتُ الجسدي، فهو لا يفنى تماماً، فتبقى القدرة مغروسة فينا، ويمكننا إجراء التحقيق، حتى نتوصّل إلى الطريقة التي يمكن أن ننقذ بها الإبداع..”..
لا بدّ أن يسأل القارئ هنا، يا ترى، لِم استخدم المؤلِّفان هذا الأسلوب الروائي، وبصيغةٍ بوليسية مشوّقة؟!..
من المؤكّد بأنه سؤالٌ ضروري، ومن المؤكّد بأنهما تقصّدا هذا التشويق، لتحريض القارئ على السؤال.. ذلك أنهما وبتناولهما لهكذا موضوع، يلزماه بالتفكير والبحث لمعرفة الجاني، وهو ما أقرا به معلنين، بأن هدفهما غرس الأفكار والاحتمالات في ذهنه، وتحريضه على إطلاق الأسئلة، وإعمال العقل للإجابة عليها، وهنا يكونان قد لعبا دوراً مدروساً في تنمية تفكيره الإبداعي، وفي إبعاده عن الخمول الفكري، مثلما عن ساحات الاحتضار والموت الثقافي.
لفتني هذا الموضوع، والطريقة الذي تمّ طرحه عبرها، لأسبابٍ كثيرة نعيشها، ونشعر فيها بأن من الأهمية إنقاذ الثقافة والإبداع من موتٍ محتمل، بل ومعاقبة القتلة باختلاف دوافعهم ودرجة ثقافتهم، وحالتهم المادية أو العقلية، وليبدأ كلّ منّا بالشكّ بنفسه، خشية أن يكون متورّطاً في عملية القتل هذه.. عملية قتل الإبداع التي وجدها المؤلّفان، تتمّ عبر مراحلٍ تبدأ بالقمع والتقييد والعزل، وتنتهي بالتدهور والتدمير..
الأهمّ من ذلك، عمليات التحرّي التي علينا ألا نتركها لمؤلّفي الكتاب فقط، بل أن نساعدهما في هذه المهمة، سعياً لإنقاذ الإبداع، ومنع هذه الجريمة، وهذا الموت..
هذا ما يهمّنا في النهاية، البحث عن كيفية إحياء الإبداع، وهو ما بحث عنه “أندرو” و “جايا” من خلالِ تقديمِ دروس توجيهية، تحتاج إلى راغبٍ في المعرفة، وقادرٍ على التفكير بطريقةٍ جديدة، يحرّضها الشكّ وتستفزّها الأسئلة…
ما يهمنا أكثر، التمييز بين قتلة الفكر الواعي وبين منقذيه، لنتمكّن من مواجهة كلّ التحديات.. الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والشخصيّة والمؤسّساتية، وهو ما سعى الكتاب لمواجهته، داعياً إيانا لما يفرض علينا تجريد القاتل من سلاحه، وتسليمه إلى مصحّ عقلي، أو مسؤول عن الأمن الفكري..