الثورة – أحمد صلال – باريس:
مستوحى من حادثة مأساوية في تونس عقب هجوم باتاكلان، يُعدّ فيلم “الأطفال الحمر” شهادةً على قوة السينما التونسية، فيلمٌ رائع ومؤثرٌ للغاية.
أثناء رعي قطيعهما في الجبال، يتعرّض مراهقان لهجوم، يُقتل نزار، البالغ من العمر ستة عشر عاماً، بينما يُرسل أشرف، البالغ من العمر أربعة عشر عاماً، لتوصيل رسالة إلى عائلته، مستوحاة من قصة حقيقية.
لا تزال صدمة هجوم باتاكلان عام ٢٠١٥ عالقة في ذاكرتنا المشتركة، ما لا يعرفه المشاهد الفرنسي والعربي جيداً هو أنه بعد ثلاثة أيام، قُطع رأس راعي غنم صغير بوحشية في جبال تونس على يد مجموعة من الإرهابيين.
يُعيد فيلم “الأطفال الحمر” كتابة هذه الصفحة الوحشية من تاريخ تونس من خلال بطلين شابين، في فقر مدقع، سيتعرضان لهجوم وحشي من قِبل مقاتلين.. أصغرهما، أشرف، هو الناجي الوحيد، ويُجبره الإرهابيون على إعادة رأس ابن عمه إلى عائلته التي تعيش في أسفل الوادي، في منزل بدائي، حيث لا يوجد سوى ثلاجة تُشير إلى الحداثة.
لا يبخل الفيلم الروائي بالعاطفة إطلاقاً، فمنذ المشاهد الأولى، يصوّر المخرج الوحشيّة التي تُصيب المراهقين، من دون أي تبرير أو تهاون، الرعب جليّ وواضح، مع الألغام المزروعة على سفوح الجبل، يُعرّض الرعاة وماعزهم لخطر التفجير يومياً، والفقر المُستشري يُمنع الوصول إلى الماء والغذاء من قِبل الإرهابيين، وانعدام الأمن المُستمر الذي لا يُنبّه الحكومة بوضوح، يُحاول لطفي عاشور جاهداً وضع هؤلاء الوحوش المُتعطّشة للدماء في مواجهة الدولة التونسية، التي تُهمل سكانها الريفيين، الأكثر ضعفاً، يجب أن تكون مُصمّماً على مواصلة تعليمك، فالأطفال عمال أساسيون للعائلات لإطعام نفسها وكسب عيشها.
في الواقع، “الأطفال الحمر” عمل سياسي يُوجّه انتقاداً لاذعاً لحكومة عاجزة في مواجهة التطرف الديني الذي يُخنق جزءاً من البلاد، تماماً مثل القبعة الحمراء الشهيرة التي كان يرتديها فيكتور هوغو في شعره.
لصفة “أحمر” معانٍ متعددة ومتكاملة.. ففي اللغة العربية، يرمز اللون إلى الشجاعة والبسالة، ومن الجليّ أن أشرف الصغير جدير بالإعجاب، لا يقتصر الأمر على معاناة الصبي من صدمة اغتيال وقعت أمام عينيه، بل كُلّف أيضاً من قِبل عائلته بالعثور على رفات صديقه في الجبال بعد أن أعاد رأسه المدمى في حقيبة رياضية.
يتجلى اللون الأحمر في ملابس الأطفال، وفي الدّم الذي يسيل يومياً تقريباً في قلب هذه العائلة التي تكافح من أجل البقاء. ومع ذلك، يُبدع لطفي عاشور فيلماً سينمائياً أصيلًا يبتعد عن اللغة السياسية البحتة.. يرسم صورةً رائعةً لهذه السلاسل الجبلية حيث تشح المياه، وتحل الصخور محل الشجيرات الضرورية لإطعام الماعز.
ترافق الموسيقا أيضاً خيالاً يندد بجبن الدولة التونسية، لكنه يسعى إلى بناء أسلوب جمالي يُكرم السينما.
يرفض الإخراج جميع أشكال البؤس، بل على العكس، ينجح في إظهار أن الجمال ممكن حتى في أشدّ حالات الفقر، تمتلئ عيون هؤلاء الأطفال بشعرٍ ينتشر في المناظر الطبيعية، مُقدماً لعيون المشاهدين دليلاً على أن تونس بلدٌ شاسع، لاسيما عندما تُقرّ بأنها لا تُوفر لنفسها كل الإمكانيات اللازمة للديمقراطية والحد من الفقر.
يظل فيلم “الأطفال الحمر” صدمة سينمائية حقيقية، قسوة الموضوع واضحة على مدار أحداثه، التي تنتهي بالكشف عن جريمة ثانية ستُرتكب بحق طفل آخر في العائلة وفي نفس الظروف، يشهد الفيلم على حزن شديد، حزن يزداد صعوبةً لأنه يؤثر على الأطفال الذين اختفوا بطرق لا تُصدق، لا تستسلم العائلة للغضب غير المبرر، بل تحافظ على كرامتها، رغم تقاعس السياسيين وديماغوجية الإعلام.
بهذا المعنى، إنه فيلم، إلى جانب تكريمه لهاتين الضحيتين الشابتين، يعكس الخصوبة المذهلة للسينما التونسية، التي تحمل شعلة الثورة منذ سنوات.