الثورة – رنا بدري سلوم:
“كلام الجّرائد لا ينفع يا بني، فهم أولئك الذين يكتبون في الجرائد يجلسون في مقاعد مريحة وفي غرف واسعة فيها صور، وفيها مدفأة ثم يكتبون عن فلسطين وعن حرب فلسطين، وهم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلّها، ولو سمعوا إذاً لهربوا إلى حيث لا أدري”.
لو تدري يا غسان، أن المئات من الصحفيين والنشطاء الاجتماعيين استشهدوا في ثورة الحرية، مخلصين لحبرهم، كتبوا بدمائهم أخبارهم العاجلة، لم يهرعوا من صوت الموت، ليوصلوا صورة الظّلم والقهر والاستبداد، ارتقوا وهم يحترقون بنار القذائف ويذوقون سياسة الرّعب والموت والاقتتال، صحفيّون ارتقوا استهدفهم الطاغية ليكسر أقلامهم ويكمّ أفواههم كي لا ينشروا أخبار مجتمعهم البائس سنوات الحرب، طقوسهم الحياتية، آلامهم، أوجاعهم، وتمركزهم في خيام اللجوء ومراكز الإيواء، أحلامهم وأمانيهم يرصدون الحريّة كما لو أنهم ما برحوا محراب الأرض التي تخلق اليوم من جديد.
انتماء وتجذّر
“لا يمكن لأمة أن تتحرر إلا إذا قررت أن تكون حرة”، هو المبدأ الذي انتهجه كلّ حرّ عبر التاريخ، هي الثمرة الضاربة جذورها عميقاً في الأرض، إنّها إرادة التّحرير، والمقاومة والتّمسّك الصلب بالجذور والمواقف.
آلاف الأطفال “كناديا”.. بطلة قصتك يا غسان، ابتسموا تحت اللّهب والقنابل والقذائف، وهم مبتورو الأطراف هي الأرض الولّادة بالصّامدين، الأرض الخصبة التي تنجب كلّ يوم أحراراً يعزّزون ثقافة الانتماء والتجذّر في غصن الزّيتون الصّامد والتين والبرتقال رغم حزنه وألمه رغم اشتعاله اليوم في الساحل السوري، باقون يا غسّان.. لم ولن يعبر جريان الدّم بصمت، لم يهدأ غضب الدّم، فجمر محابرنا قد لوّن شرائط حدادِ كلّ صورة معلّقة على وجهٍ باسم “كانت ابتسامته الخيط الأخير مع الشّمس” ألم تقل لنا ذلك ؟!.
نحن اليوم نحتفي بوجوه من راحوا وتركوا ملامحهم البريئة المعلقة بصورتنا البصريّة كحمزة وغيره من الأطفال الذين غدوا ملائكة الأرض حراس السماء.
شمس المستقبل لن تنطفئ
سنعمل بنصيحتك “اصبر يا ولد، أنت لا تزال على أعتاب عمرك، وغداً وبعد غد سوف تشرق شمس جديدة، ألست تناضل الآن من أجل ذلك المستقبل؟! سوف تفخر بأنكَ أنتَ الذي صنعته بأظافرك من الأول إلى الآخر”، ليست وحدها الأظافر من تحفر في الأرض شجرة غار وانتصاراً، بل ضحكة ودمعة في وجوه أطفال ولدوا مع أصوات الصواريخ ونيران القذائف وبراميل الكيماوي، أطفال بعمر الثورة عاشوا نيران الغضب وهم يشربون وهم يهلعون بحثاً عن ملجأ وهم يلعبون في الحدائق وهم في أحضان أمهاتهم، عاشوا ما عاشوه من ويلات الحرب الشعواء، إلى أن أشرقت تلك الشمس التي تحتضن ابتسامتهم البريئة التي نكتب عنها اليوم وسنكتب كل يوم فنحن “لا نكتب لكي نبكي، بل لكي نغير”.
وها نحن اليوم بعد أن وثقت الكتابة إرادة شعب، نعيش التحرير بعد أن قرر بأن يكون حراً، رغم ألم الولادة العسير، سيبقى الشعب السوري والفلسطيني وفياً لقضية وجوده وتجذره وحريته وانتمائه “لوطن ليس قطعة أرض بل لشعب يعيش على هذه الأرض”، شعب يرنو إلى الحرية والعدالة والسلام.