الثورة – هفاف ميهوب:
سريعاً يمضي، يطوي لحظاتهم وأحلامهم وذكرياتهم، ويدفنها مع جثامينهم التي تُشيع، إلى مثوى غربتها الأخير، لكنه لا يطوي آثار عقولهم ولا يشيّعها، بل يُبقيها أبد الحياة التي تخلّد، كلّ عملٍ أو فكرٍ عظيم..
هو الزمن، وهم مبدعوه… هو “المقياس الوحيد الذي نقيس به الخلود”، عندما نمتلكه كما امتلكه “فولتير”.. الكاتب والفيلسوف الفرنسي الذي لم تكن الحياة لديه، إلا “كسفينةٍ محطّمة، وحده العاقل من لا ينسى لذّة الغناء في قواربِ النجاة فيها”..
إنه ما فعله أبد عمره الذي عاشه طويلاً، ما جعله أقلّ الأدباء تشاؤماً وشكوى من الزمن، الذي لم يجد ما هو أطول منه في الكون، ولا أقصر منه في الوجود… طبعاً، حسب اللحظات التي كان يعيشها، وسعى ما أمكنه لجعلها سعيدة، بطريقةٍ جعلته يشعر بأن “الزمن يمضي بسرعة تفوق سرعة الضوءِ والبرق، في إحساسِ من تسرّب الفرح إلى قلبه.. الزمن الذي لا شيء مثله يطمس معالم التفاهة، ويخلّد آثار النبوغ والعظمة”…
إذاً.. “فولتير” وجد الزمن، وقد امتلكه وعاشه، دون أن يفقده أو يضيّعه.. عاش ألقه ومجده وفرحه، رغم تحطّم سفينة الحياة، لطالما عرف كيف ينقذ نفسه بالغناءِ في قوارب النجاة التي فيها..
نعم، لقد وجد “فولتير” الزمن، أما “مارسيل بروست” الذي كان يعتبر نفسه شخصاً فاقداً للحياة، ويعيش على هامشها، فقد عاش طيلة حياته يبحث عن الزمن، وبيأسٍ تشهد عليه الأجزاء السبعة لأعظم وأشهر أعماله، الرواية التي اعتُبرت مدرسة في تعليم كيفية “البحث عن الزمن المفقود”.. الزمن الذي عاشه في عزلةٍ، رغم قسوتها عليه، إلا أنها لم تمنعه، وعلى مدى سعيه لاقتناص ولو لحظة حياة فيها، من أن يغزل من اللحظات الموجعة التي عاشها في غرفته، خيوط ذاكرته الخارقة، التي جعلته يرى بأن هذا الزمن الضائع والعابث “يظلّ كامناً في أعماق كياننا، لا يموت ولا يفنى، ولكنه فجأة ينفجر كنبعٍ هادرٍ بالعطاء”…
امتلك “فولتير” الزمن وغنّاه، وهرب من حطام لحظات الحياة التي فيه، بقوارب نجاتها، فعاش طويلاً.. فقدَ “بروست” الزمن، واستسلم للألم والمرارة والمعاناة، فعاش عمراً عليلاً وقصيراً..
عاش عمراً قصيراً، دون أن يتوقف مسعاه في البحث عن الزمن الذي ضاع منه.. استمرّ في بحثه وضاعف جهده، فكان السبب في شهرته.. جعل من الزمن بطل روايته، فانتهت لديه الحياة، في اللحظة التي توقّف فيها الزمن، وبقيت هذه الرواية، تذكّر بإبداعه ومقولته: “إن الزمن يهدمً كلّ شيء”..