الشعراء أبناء التمرّد والثورة والحلم..عمران لـ”الثورة”: لا يمكن للضمير تخيل نهايات في سوريا أجمل مما حدث
الثورة – سعاد زاهر:
حمل كلماته ومضى.. الشاعر أنور عمران غادر سوريا قبل أحد عشر عاماً، واستقر في السويد، وعلت صرخاته من هناك ضد كل هذا الترهيب الذي عاشته سوريا.. لا يزال يعتبر الشعر ابن التمرد، ابن ثورة ما، والشعراء الحالمين الذين سيغيرون وجه سوريا كتلك الفراشات التي تغير وجه العالم..
مع عمران كان لـ”الثورة” الوقفة التالية:
قلت في أحد اللقاءات “لا أعرف إن غادرت سوريا” ما معنى أن تحملها معك؟
تتشكل ملامح الهوية من تقاطعات اجتماعية وثقافية ولغوية، والرحيل عن المكان لا يعني الرحيل عن الهوية، ربما العكس، البعد عن المكان الأصلي يحفز الانتماء، يُكثّفه، ويجعله مُلاحَظاً ومرئياً في أصغر تفصيل وأصغر دلالة، أعيش في السويد منذ أحد عشر عاماً، وحتى الآن عندما أسمع لفظة عربية مصادفةً في عربة قطار، أو في شباك مفتوح، أو في أغنية بعيدة، أعود مباشرةً إلى مكاني الأول، يُقال إن حقيقتنا تكمن في لا وعينا، هناك تُعبّر المحمولات عن ذاتها بعيداً عن الضوابط والرقباء، في أحلامي مثلاً ما زلت أعيش في سوريا، أمشي في شوارعها، أتحدث لغتها، خلال كل مدة إقامتي في أوروبا حلمت مرة واحدة أنني أمشي في شارع سويدي.
وصلت إلى السويد عام 2014، وأنا من مواليد عام 1972، هذا يعني أنني وصلت بعد أن تجاوزت الأربعين، ولذا لا أستطيع أن أكون سويدياً أكثر من كوني سورياً، فقد تكونت هويتي السورية بشكل كامل قبل وصولي، وبالرغم من أنني لم أرَ سوريا منذ مدة طويلة، إلا أنني أشعر أنني معني بما يحدث في سوريا أكثر من السويد، أتابع مرورها في نشرات الأخبار أكثر من مرور السويد، المكان الذي نولد فيه أشبه بالوشم ولا أحد يستطيع أن يمحوه، وأنا صاحب الوشم السوري وابنه، من دون أن أقصد لا أتحدث إلا عن سوريا ولا أكتب إلا عن سوريا، لا أريد ولا أحلم بأن أصنع منها فردوساً مُتخيّلاً، ولكنها بالتأكيد فردوسي أنا، فردوسي الخاص.
تعيش مع ثنائيات.. بحكم وجودك في السويد، ثنائية اللغة، الثقافة، كيف تتعايش معها؟
أفرزت الكتابة الشرقية الجديدة في أوروبا لعنة أسميها “لعنة مدح الغريب” أو “التزلف للغريب”، هذا الزبد وبالرغم من محاولة تكريسه من قبل المؤسسات الثقافية الأوروبية إلا أنه لم يجد قارئاً حقيقياً، ربما لبعده عن الأصالة، لا أقصد تلك المقارنات التي تأتي في سياقها الموضوعي، فهي مفهومة ومُبررة، أما جلد الذات بهدف التكسب فهذا ما يحول الكاتب إلى أُلعبان أو أراجوز، بالنسبة لي أعتقد أنني في جزءٍ مني صرتُ أوروبياً فعلاً، ولكنه جزءٌ صغيرٌ جداً، جزء يتعلق بالحياة العملية، بالقوانين، بالحقوق والواجبات، أما فيما يخص الجوانب الروحية فأنا شرقي بالكامل: كتاب ألف ليلة وليلة يمتعني أكثر بكثير من الإلياذة، أم كلثوم تطربني أكثر من أديث بياف، تقاسيم على آلة العود تسحرني أكثر من سيمفونيات بيتهوفين، وفي النهاية ثمة جمال في كل مكان وفي كل ثقافة، وأظن أن التعرف على أكثر من ثقافة يعادل في حسن الحظ العثور على أكثر من واحة في الصحراء، أين ما وجد الماء النظيف يمكن للمرء أن يشرب، لكنني أعتبر نفسي شرقياً كاملاً بالمعنى الثقافي، وأفهم سياق ثقافتي وقوة ثقافتي.
– كتب عنك في أحد المقالات “مفردات وعناصر الموت والحرب والغياب تسللت إلى قصيدتك وأنت تكتب عن الحب..” بعد التحرير هل بإمكانك أن تبدل تلك مفرداتك أو أنها ارتبطت بأحاسيس من الصعب الانفلات منها؟
يجب أن نسأل أنفسنا السؤال الأهم: هل انتهت المأساة السورية بعد التحرير؟ وأجيبُ أنا: تقريباً انتهت لأن السبب الأساسي للكارثة السورية قد زال، أقصد فترة حكم آل الأسد المخلوع، ولكن الجراح التي خلّفتها تلك الفترة مازالت موجودة، كتابة الشعر تختلف عن بقية أنواع الكتابة بأنها لا تصدر عن العقل وإنما عن العاطفة.
الروح الشعرية المرهفة التي تمتلكها كشاعر، كيف تتعاطى مع ما يحيط بك في العالم؟
الشاعر وبالرغم من حياديته الظاهرية فإنه يظل جزءاً مهماً من العالم، الفن بشكل عام هو الجزء الأهم من الإنتاج العالمي، صحيح أن الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري يقدم المقومات اللازمة لاستمرار الحياة، لكن الفن يقدم ما هو أهم، يقدم المبرر الحقيقي لاستمرار الحياة، لنتصور الحياة بلا فن!
سنحصل على ضجيج الآلات وحبر الأختام وبلادة وصرامة القوانين، سيتمظهر العالم في مرايا النزاعات والمعاملات الجمركية والأفكار العنصرية.
في طفولتي كنا ننصب الفخاخ للطيور، نعرف مواسم وصولها، أنواعها في كل فصل وأنواع الفخاخ اللازمة، وكنا أيضاً نغني أغاني خاصة لكل نوع من الطيور، ويبدو أن الطبيعة كانت تتواطأ معنا لتقدم لنا برهاناً بسيطاً على أن الأغنية هي مفتاح الحصول على الصيد الثمين، فقد كنا نعتقد فعلاً أن أغانينا هي تجلب الطيور للفخ، أقول الآن وأنا أتحسر على مصير تلك الطيور المسكينة التي كان من الأفضل أن > Lama: نقدم لها الطعام بدلاً من قتلها، ولكن للأسف هذا ما كان، البحّارة تلزمهم أغنية، الجنود يلزمهم أغنية، العشاق والحزانى والرهبان تلزمهم أغنية، ما يفعله الشعراء أنهم يكتبون هذي الأغاني كي تستمر الحياة، كي يفعل الناس ما يجب عليهم أن يفعلوه، ربما سأتمادى قليلاً، أن الآلة تحرك العالم إلى الأمام، الزراعة تعطيه قوته، لكن الشعر يحافظ على استمراريته.
كان الموت اليومي للسوريين تيمة في قصائدك، اليوم ما هي التيمة التي سيأخذك إليها بوحك الشعري؟
لا أعرف إن كانت القصيدة ستفرض على تيمة ما، لست أنا من يقرر، لكنني أتلمس تباشير الفرح الحقيقي في حياتي وحياة السوريين، ما يدهشني حقاً في الآونة الأخيرة قدرة الحياة المعجزة على تعديل مساراتها والعودة إلى الطريق الصحيح عبر آليات مفاجئة، غير متوقعة، وغير مفهومة، وكأن ما يحدث لا يحدث حقيقة وإنما يتخيله شاعر، قلتُ سابقاً: “لا أحد أذكى من القدر، دائماً يضع خاتمة مناسبة”، وهذا ما حدث حقيقةً في سوريا ولبنان، لا يمكن للضمير أن يتخيل نهايات أجمل من تلك التي حدثت بالفعل، المقدمات الرائعة التي وهبتنا إياها الحياة كانت صحيحة، ما نحلم به الآن هو نتائج صحيحة تُبنى على تلك المقدمات، إذا كان من تيمة ستفرض نفسها على نصوصي القادمة، فأتوقع أن تكون تيمة الأمل.
في ديوانك “أُسند ظهري إلى الرياح” استخدمت تقنيات السينما والمشهدية السينمائية، هل كان استخدام هذه الأدوات مقصوداً؟
عبر تاريخ البشرية، كُتبت ملايين القصائد، قيل كل شيء وتكرر بأساليب مختلفة، عندما أفكر بملحمة جلجامش على سبيل المثال أجد أنها تطرقت لموضوعات كثيرة منها: الحب والخلود والوفاء والإصرار والعلاقة مع المقدس والفلسفة والتأمل، وأزعم أن كل ما ينجزه الأدب العالمي الآن يدور في فلك واحد من المواضيع التي تطرقت إليها ملحمة جلجامش، هل يعني هذا أننا يجب أن نتوقف عن الكتابة؟ إننا لن نضيف جديداً؟ وهل تنحصر مهمة الأدب في طرح الأفكار أم في طريقة إخراجها؟ برأيي أنا: مهمة الأدب هي محاربة القبيح ومديح الجميل، دائماً يوجد قبيح ويوجد جميل، ولكن مديح الجميل لا يكتمل إلا بأدوات جميلة، بأدوات تجد طريقها الرشيق للوصول إلى القلوب، والجديد بالتأكيد جزء من الجميل بطريقة ما، لذلك على الكاتب أن يبحث دائماً عن الجديد، قد لا يكون استخدام أداة معينة مقصوداً، ولكن الإيمان بالتجاوز، البحث عن الأسلوب الخاص حاضر دائماً في وجدان الكاتب، ولذلك يخرج النص كخلاصة للفهم والرؤى والتجارب، الكاتب الجاد من الصعب أن يكون كلاسيكياً، تجريب الأدوات الجديدة من أهم روافع الأدب الجيد.
هل أعانك الشعر في غربتك؟
كما قلتُ سابقاً من مهام الشعر أن يُجمِّل الحياة، الشعر يحاور الذاكرة ويستنتطقها، واللغة حامل حقيقي لمعارفنا وثقافتنا ومواقفنا من الحياة، بالتأكيد يستطيع الشعر أن يقدّم حلولاً لمشكلات العاطفة، لأن المشكلة والحل في هذه الحالة من جنس واحد، الشعر كان نافذتي التي تصل بين الماضي والحلم، النافذة المفتوحة التي كلما شارفتُ على الاختناق، يعطيني الهواء المتسرب منها ما يلزمني من الأوكسجين كي أستمر، هو وسيلتي للاتصال مع نفسي، مع لغتي، مع لا وعيي، مع ثقافتي، لا أظن أن هناك في العالم ما يعين على الغربة أكثر من الشعر.
نلت جوائز عربية ومحلية منها جائزة سعاد الصباح في الكويت، جائزة الإبداع العربي- الشارقة، جائزة عكاظ الشعرية وجائزة أبي العلاء المعري للشعر.. ما الذي تعنيه لك، وهل حفزتك؟
في البدايات الجوائز تكون مهمة لأنها تسلط الضوء على أعمال الكاتب الأولى، تكون أشبه بجواز مرور، في بداياتي حصلت على الجوائز التي ذكرتيها وجوائز أخرى أيضاً، لكن الاستمرارية تأتي نتيجة ظروف وشروط أخرى.
تأتي نتيجة إيمان الكاتب بجدوى الكتابة، نتيجة قدرته على الحفر المتواصل، مع أنه يعلم جيداً أن الكنز في مكانٍ بعيد.
كان للشعر دوره أثناء الثورة، اليوم بعد التحرير كيف ترى دوره؟
الشعر بالأساس ابن ثورة ما، ابن تمرد، ابن رؤيا مغايرة لما هو سائد، ومعنى التحرير لا يقتصر على زوال الطاغية، وإنما يعني أيضاً زوال مظاهر البؤس والتخلف والفقر، سوريا بحاجة لعمل جاد من أجل مستقبلها الذي نحلم به، والشعراء هم جزء من الحالمين الذين سيعملون مستقبلاً من أجل سوريا أجمل، نحتاج إلى أسس الجميل في بنائنا للحلم، ولا شيء يضمن هذه الأسس أكثر من الشعر، صحيح أنه يقدمها بشكل غير مباشر، لكن أثر الفراشة يحدد شكل العالم النهائي.
كيف تقيّم مستوى حضور الثقافة العربية في أوروبا؟
لا يمكن اختصار الثقافة بمتداولها الشائع فقط، الثقافة ليست شعراً ومسرحاً وكتباً فقط، وإنما الثقافة هي عادات وتقاليد وطريقة تفكير وأسلوب حياة، الثقافات العالمية عاشت وتعيش دائماً في تجاور وتقاطع، قد تتمدد أحياناً ثقافة على حساب أخرى نتيجة قدرتها أكثر على فهم الواقع أو خدمة الواقع أو التعامل معه أو حتى إنتاجه، ومقدار قوة الثقافة يتأتى من قدرتها على تجاوز نفسها من دون التخلي عن أصالتها، الثقافة الشرقية بمحمولها الإعلامي، بأسماء مثقفيها وكتابها غير موجودة تقريباً، أو تمر من دون أثر يذكر.
ولذلك أسباب كثيرة منها التابوهات التي تسكن رؤوس منتجي الثقافة في الشرق، وكذلك التعامل مع الثقافة ككل كمنتج ثانوي، المهن الثقافية في الشرق ليس لها تقاليد وقوانين واضحة، عدا عن ذلك الشرق سيئ في تسويق نفسه، في تسويق ثقافته ومنتجه الصناعي والزراعي وكل شيء.
ومع ذلك نجد أن الطعام الشرقي مثلاً يفرض نفسه في أوروبا، بعض أنواع الموسيقا الشرقية أيضاً موجودة بقوة، الرقص الشرقي موجود، التقاطع إذاً موجود، ولكن الوجود بحد ذاته خجول جداً.
بطاقة تعرفة
الشاعر أنور عمران- مواليد سوريا /حمص/ ١٩٧٢- مقيم في السويد.. الجنسية: سورية وسويدية.
-عضو رابطة الكتاب السوريين- عضو نادي القلم السوري “Pen Syria”
– عضو نادي القلم السويدي “PEN Sweden”
– عضو اتحاد الكتاب السويدي: “Sveriges Författarfl”.
صدر له ثلاث مجموعات شعرية:
– قافية لخلاخيل بلقيس – لن تستطيع الإقامة.. لن تستطيع الرحيل/اتحاد الكتاب العرب/دمشق/٢٠٠٧.
– أسند ظهري إلى الرياح/ الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 2017.
حائز على العديد من الجوائز العربية ومنها:
جائزة سعاد الصباح- الكويت – شعر- عام ٢٠٠٠.
جائزة الإبداع العربي- شعر- الشارقة ٢٠٠١.
أما الجوائز الشعرية الأخرى في سوريا فمنها:
– جائزة عكاظ- شعر.
– جائزة أبو العلاء المعري- شعر.
– جائزة اتحاد الكتاب العرب – شعر
– جائزة رابطة الخريجين الجامعيين- شعر
– ينشر أعماله في العديد من المجلات والصحف العربية.
– قدم أطروحة جامعية في جامعة جاكرتا /أندونسيا/ كلية آداب اللغة العربية عن مجموعته الشعرية “أسند ظهري إلى الرياح”.