الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس:
لا أريد، وليست مسؤوليّتي، وليس من حقّي، ولا أقبل حتّى بيني وبين نفسي، أن أوجّه إليكَ ملامة أو عتباً، قبل أن نتعارف؛ وقد لا يحدث هذا مباشرة؛ بل عبر ما أكتب، وما قد تقرأ، الآن، أو بعد حين، ولا أدري بعدئذ، ماذا سيكون ردّ فعلك، أو تفاعلك، أو انفعالك، وقد لا أعرف؛ لافتراق في المكان والزمان والموقف! مع ذلك، وإلى أن يتحقّق، اسمح لي أن أحيّيك، وأحادثك؛ آملاً أن يصل إليك ما أنفثه الآن، وفي أيّ وقت. وإنّني، وإن ارتأيتُ أن أتقدّم إليك بهذا الخطاب؛ فلأنّني أقدّر أهمّيّتك، ودورك، ومسؤوليّتك الثقافيّة والأخلاقيّة، التي تتحمّلها بالضرورة والمنطق والواقع؛ كما تحمّلتُ، وأتحمّل، وحملتُ، وأحمل، وبادرتُ بدافع ذاتيّ، ومن دون أن يطلب منّي أحد ذلك؛ بل قد يكون هنا وهناك وهنالك من لا يتمنّى أن يقوم أحد بهذا؛ أنا أو سواي؛ ليس من أجل راحتي أو راحتك؛ بل لغاية في نفس يعقوب!.
ولنترك ما لسوانا، ونفكّر معاً في ما يتّصل بنا، في الأمر، الذي ارتضيناه، أو تبنّيناه، أو كُلّفنا به من قبَلِ من ليس شخصاً أو جماعة أو جهة؛ كما قد يُظنّ، ويُعتقد، وبُتوهّم، ويُتَّهَم، ونُتّهَم؛ بل ممّن لا نعرف؛ بل ممّا نحسّ، أو نتحسّس، أو نستشعر، أو نتأمّل، أو نفكّر… ولا ننتظر، لا أنا ولا أنت، من وراء ذلك أجراً، ولا مكافأة، ولا موقعاً، ولا مصلحة شخصيّة، ولا نتوقّع حمداً ولا شكوراً؛ قد يبدو هذا مثاليّاً، غريباً، غير منطقيّ، وغير مسوّغ؛ ليس في قاموس هذا الزمن فحسب؛ بل في مختلف العصور، التي مرّت، وقد تمرّ.. لكنّ ذلك حقيقيّ نابع من قناعاتنا، ومن وجودنا الإنسانيّ العاقل، ومن الجدوى، التي يتطلّبها هذا الحضور المحدود من السنين في هذا الحيّز، عبر هذا المسار اللامحدود أو اللا محدّد، واللا مرصود.. ومسكين أنا، وأنت، ماذا بإمكاننا أن نترك من أثر؟! وبأيّة إمكانيّة وظروف وشكل، وإلى أيّ مدى؟!.
دعنا لا نستهلك الوقت الثمين بهذه التساؤلات والأسئلة الإنكاريّة، ونستثمر ما يتسنّى لنا، ما نوفّق به، ما ننجح بإنجازه، ما نخلص إليه، ونستخلصه من بين الركام، ونستنزفه من بين المخاضات، ونستنبته، ونبتدعه، ونحتلمه، ونتراءاه، ونتوق إليه، ونسعى نحوه، من دون تردّد وتعلّل وتكاسل وتبلّد…
إنّنا معنيّان؛ قارئي المحتمل، أنت وأنا؛ على الأقلّ، بما يجري، بما جرى، وسيجري، وعلينا أن نعدّ العدّة لذلك، وقد نحتاج إلى آخرين؛ بل من المؤكّد أنّنا نحتاج إليهم، ونرغب بإسهامهم، معنا أو في مفازات أخرى؛ فلنجتذبهم بالإقناع والجدّيّة والهمّة والبيان والحسنى، ونحبّبهم بما نتبنّى ونقول، ولنقدّم لهم أمثلة على أهمّيّة ما نريد، ونبل ما نقصد، وجدوى ما نضحّي في سبيله، ومن أجله؛ بشواهد من التاريخ، من الحاضر، في القريب والبعيد، وفي مختلف المعابر والسموت والأحياز، ممّن زهد، واهتدى، وافتدى، صمد، وصبر، وقاوم، وبادر، نجا، أو قضى، ممّن يَعرفون، ولا يَعرفون، ونعرف… وإذا تطلّب الأمر، وتعذّر الخطو، وتراكمت العثرات؛ فقد نكون قربانَين لهذا؛ نحن مستعدّان لذلك، قادران على القيام به؛ لنهيّئ أنفسنا لمثل هذا الحلّ؛ فهو أصدق حالاً، وأعمق مغزى، وأقرب قدوة وأنصعها، وأكثر قدرة على الإقناع والحثّ على التخويض معنا، بعدنا، في هذا المعترك الشائك الشائق.
فلماذا نستهلك الطاقة والجهد والوقت في مشاكسات ومعاندات واختصام في ما بيننا؟! ولماذا نتبادل الاتّهام والأحكام المسبقة واللاحقة، ويتقاوى واحدنا على الآخر بالتعالي والتجافي والنكران؟! ونحن في خندق واحد، وفي جبهة واحدة، وفي سبيل واحد أو مواز، وهدف مشترك؟!
لا أمنّنك بما أكتب؛ فلست أفعل من أجلك؛ مهلاً، لا تتسرّع باتّخاذ موقف، لا تغضب، ولا تبتعد، أو تنكفئ، أو تلتجئ إلى جهات الخصوم؛ فأنا أكتب لنفسي أوّلاً! نعم، ليس لإرضاء نزوة، وإشباع شهوة، ولا لإظهار قوّة وبأس، ولا لإثبات نظريّة، أو لدحض أخرى.. إنّ ما أبغيه، لا يؤذيك، ولا يسيء إليك، ولا لسواك، ولا يبتعد عنك وعن سواك!.
ليس في الأمر أحجية، ولا متاهة؛ كما قد يظهر؛ إنّها محاولة للفهم، للبحث عمّا يجدي، للوصول إلى خلاص آمن! ألا يرضيك هذا؟! ألا يستهويك، ويخطر في بالك، وترجوه، وتتمنّاه؟! كما يحسّ سواك؟! ألم يشغل هذا بال كثيرين ممّن سبقوا؟! لا همّ إن خلصوا إلى جواب، أو لم يتسنّ لهم ذلك، وإلام توصلوا؟! لا مشكلة في ما ادّعوا، ولا في ما اقتنعوا به، أو ارتضوه بعد جهد يتناسب مع قدراتهم، وظروفهم؛ وليس محتّماً علينا أن نتبنّى ما ادّعوا، ولا أن نرفضه؛ فلنا الخيار في ذلك؛ لنا إمكانيّاتنا المختلفة، وأدواتنا الأكثر تطوّراً، ومعلوماتنا الأكثر دقّة وحداثة، وتجاربنا الأكثر تمثّلاً؛ وليس هذا انتقاصاً ممّا كان لديهم؛ فربّما كان حدسهم أقوى، وكانت حواسّهم أكثر تفاعلاً واستجابة، ولهفتهم لا تقلّ عن حماستنا، وقد تزيد، وربّما متابعتهم أطول صبراً، وتصبّرهم أصلب، وتأمّلهم أوفى؛ وقد يكون في بعض ما قالوا به حكمة، وفي بعض ما تحدّثوا به صحّة؛ بيد أنّ علينا التحقّق
من هذا، وألّا نتوقّف عنده؛ بل أن نبني على أخطائه، ونجاحاته، بما صار لدينا، بمدركاتنا الخاصّة، ومعرفتنا المغتناة، وأسئلتنا المستجدّة، وكشوفاتنا الغزيرة، واختراعاتنا الوافرة.. والبقيّة تأتي!
أليس هذا يصبّ في صالحك، في صالح كائنات تشبهنا، ولا تشبهنا، الآن، وغداً، وبعد زمن؟!
أنا لا أريد، ولا أرمي، وليست قناعتي، أن أصفك بالعجز، والقصور، والتمرّد، وحبّ المخالفة والمكابرة… وأنا أجهل أوضاعك، وأحوالك، وما تعانيه، وتواجهه، وما تحبّ، وما تكره.. لكن؛ أليس عليك أن تسعى، وتهتمّ، وتتوقّف ولو قليلاً، عن انشغالك بما لا ينتهي، ويتجدّد، ويستجدّ، ويحتشد، من مشاهد، وأحداث، وأخبار، ومشاهد؛ من مسائل، وأدوات، ووسائل، لتقرأ ما أرسله لك، ولسواك، للتاريخ، للحياة؟! واسمح لي أن أمتعض، وأن أكتئب، وأخيب، وإن كنت قد أصبحت في حال مختلفة، ودنيا مغايرة، إذا ما أعرضتَ عن مسيرتي، عن رؤاي، ووصمتني بما لا أرضاه، ولا يرضيني أو يليق بك، بمسمّاك، برسالتي ومهمّتك، من دون أن تطّلع، وتتقرّى عنّي وعن سواي، من دون أن تهتمّ، أن تسعى، أن تجتهد، أن تلتفت إلى ما أقول، إلى ما يُقال !.
أنا..أنا لا أتّهمك بسوء الفهم، ولا أقصد إهمالك، حين أكتب بلغة مختلفة، حين أستخدم أدوات مختلفة، حين أروم فضاءات محتملة، وقد تكون مختلفة، أو لا تكون، حين أسلك سبلاً وطرائق وأساليب، لم تعتدها…
ويجب؛ آه، عفواً .. بل أتمنّى عليك ألّا تتّهمني بالخروج عن المألوف، والانبتات عن الواقع، والانفصام عن الكائنات الأخرى .. فنحن معاً، في مركب واحد، متشابهان، ولسنا متماثلين، متقاربان متكاملان ولسنا متساويين؛ لكلّ منّا قدراته، وظروفه، ومهمّاته، لكن أحتاج إليك الآن وفي كلّ وقت، أعتزّ بك، وأغتني بما لديك، وأستشعر ما تحسّ به، ولا يمكن أن تستغني عنّي، لن تكتفي بالطعام والشراب، وما لذّ وطاب… هي غرائز، لا تكفي، وهناك غرائز أخرى؛ أليست المعرفة غريزة ملحّة؟! أليس البحث عن العلّة والأسّ والسبب مسألة ماثلة بلا حلّ يرضي الجميع؟! أليس التساؤل عمّا وراء، وعمّا بعد، وعن المآل والمصير، قائماً؟! أليست الشكوى من الحال المقيمة، والأحوال المتبدّلة، والظروف الضاغطة، والمآسي والكوارث، التي تحدث من قبل البشر، والطبيعة، والحاجات، التي لا تنتهي؛ كانت، وتكون، وستكون، متوارثة؟! أليست الأسئلة إلى أين، وإلى متى، ولماذا؟! مثيرة ومقلقة ومعلّقة، تتواتر باستفزاز وتحريض أمامنا؟! لا تقل لي لا يهمّني هذا، ولا يستهويني! فإنّك تعيشه؛ بعضه أو جلّه، وتعاني من عدم الاستقرار بسببه، وقد تتهرّب من هذا، ولا تعترف به، وتحاول أن ترضى بما قيل، وما قُبل، وما أشيع، وما فرض… لكنّك ما زلت تعيش، ولا يزال لديك الكثير، ولستَ راضياً بهذا أو ذاك! ولستُ مقتنعاً به، مكتفياً بمؤدّاه، وأريد أن أبحث أكثر، أطوف أكثر، أرى أكثر .. وأرغب رغبة صادقة في أن تشاركني مبتغاي، أن تلاقيني على المفترق، أو تسايرني في خط آخر؛ فلعلّه يكون الأجدى! أو على الأقلّ، اصبر عليّ بعض حين، وتحمّل انفعالاتي، وتردّدات أنفاسي، فأنا أجهد في المحاولة، وأستثمر أدواتي، مسابيري، ولا أقصد تغريبك، ولا تعقيد مسارك، ولا تشويش رؤاك، ولا تعكير مداك… لكن سامحني إن سبّبت لك بهذا من دون أن أقصد، وقد أقصد من دون أن يكون معي حقّ؛ فإنا مثلك كائن متطلّب، وقلق، وخطّاء!
لا تطلب منّي أن أنتظرك؛ فقد تتأخّر، والوقت لا يرحم، والعمر محدود! لا تقترح عليّ ما خبرتُه، ولا تدعُني إلى ألهياتك وتسلياتك وانشغالاتك واهتماماتك واعتقاداتك المثبّطة، والمحبطة، والمؤخّرة، قد تستهويك، وتحتاج إلى بعضها بعض الوقت، ولكن هناك شيء أكثر مداهمة، أشدّ وطأة؛ فلا أستطيع، والأسئلة مهماز نشط، والحيرة كابوس مقيم، والعزم لا ينوس، والشغف لا يخمد!
أتمنّى عليك أن تشدّ الرحال، لا أن تثبّت الأوتاد إلى ما لا نهاية؛ لن تهنأ بالإقامة هنا إلى الأبد، ومن قال إنّك باق إلى الأبد؟! مهلاً هذا يجب ألّا يدعوك إلى التقاعس، والإهمال، والقنوط؛ فمن المهمّ أن يقلع مركبك من جديد، وبلا توقّف، وليس مقبولاً أن تمزّق الشراع بدعوى الهداية، فربّما هداية أخرى في الأفق؛ لا تقف كالراصد الوحيد؛ فهناك من يرصدك من بين ما يرصد! ولا تتربّص كالصيّاد الوحيد؛ فالصيّادون كثر، وقد يفرح سواك بصيده؛ والخوف أن تفرح معه، وقد تكون طريدته! ولستَ خارج السباق، فهل يسعدك ان تُسبق؟!
قد تكون دعوتي الأخيرة؛ لا تبتئس، قد يدعوك سواي، ويدّعي ما أدّعيه، وقد يكون لديه الحقّ، أو لا يكون، مثلي أو أكثر، وعليك أن تختار بما بقي لديك من زاد، بما صار لديك من رصيد.
عذراً إن كنت أقلقتك، أو سبّبت لك الاستفزاز، أو حرّكت ما استقرّ في دلوك وفي خاطرك، فحرّكتَ منظارك من جديد، أو في اتّجاه جديد، أو أثرتُ ما بقي لديك من حوافز، وحوّمتْ في فضائك طيور غريبة، ولاحت لك عرائس بحر أخرى، فغززت التجديف نحوها…
سأقول لك، قبل أن تصل، وترمي المجداف؛ ولن تصل! هذا ما قصدته، وهذا ما وددت أن تمارسه، أن تسعى إليه بهمّة ورغبة ولهفة.. لا أعرف ما ينتظرك من مصير، وليس بإمكاني أن أعرف، ولستُ مسؤولاً عنه، ولستَ كذلك، لكنّ واجبي ومسؤوليّتك، أن نحاول، أن نتحرّك، أن نُسائل، أن نحيا بما لدينا، بما امتلكنا، وبما سنحصل عليه؛ وأحلم، وأتكهّن بما أتمنّاه لك، ولي، ولسوانا، شركائنا في الهمّ والاهتمام والمسؤوليّة واللغز، وأعترف، وأشهد بأنّي لست على يقين!
فلعلّ في الخطو انشغالاً، وربّما في التوق مآل، وليت في الروع احتمالاً!
ليس إلّا!
التاريخ: الثلاثاء7-12-2021
رقم العدد :1075