الملحق الثقافي:مها محفوض محمد:
كثير من الفلاسفة عاشوا تحت خط الفقر لكنهم شغلوا الدنيا بثراء نتاجهم وأغنوا العالم بأفكارهم ومفاهيمهم، كارل ماركس عاش مرحلة بؤس وفقر مدقع وقدم لفقراء العالم نظرية ثورية تبحث في قيام العدالة الاجتماعية .. جان جاك روسو الذي يعد أحد أكبر الفلاسفة في عصر التنوير أيضاً عانى فقراً شديداً ومن عالمنا العربي هناك أمثلة مشابهة لفلاسفة كبار عاشوا ظروفاً مشابهة أمثال أبو حيان التوحيدي والجاحظ فربما كان الفقر في حد ذاته دافعاً للتأمل في الحياة والوجود بالنسبة للكثير من هؤلاء.. بل إن بعض المذاهب الفلسفية قامت في الأساس على نبذ الغنى والمال .. لكن هل كان الفلاسفة يتصرفون بشكل منسجم مع نظرياتهم الفلسفية حين يتعلق الأمر بالمال وهل عاشوا من ريع مؤلفاتهم وهل أفكارهم جميعاً هي انعكاس لحالتهم المادية حيث أن البعض كتبوا ليقولوا شيئاً والبعض الآخر يكتبون من أجل الكتابة فقط أي لكسب المال فهل كانوا أثرياء؟.
أسئلة عديدة يجيب عليها الكاتب الفرنسي هنري دو مونفالييه في مؤلف إبداعي صدر مؤخراً في باريس تحت عنوان « محفظة نقود الفلاسفة « يستكشف فيه نظرة الفلاسفة الكبار للمال وعلاقتهم به في حياتهم العملية .. عن فصول كتابه يتحدث مونفالييه قائلاً : لقد خصصت الفصل الأول لأفلاطون الذي عرف بمعارضته القوية للسفسطائيين ماساهم الى حد كبير لتأسيس فكرة أنه على الفيلسوف أن لايكترث بالمال وأن الفلسفة ممارسة نقية مجانية خالصة ليس لها غاية سوى البحث عن الحقيقة وعلاج الروح ولئن بقيت عبارة سفسطائي إلى اليوم تقترن بغياب التفكير أو الدفاع عن قضايا لاتقبل الدفاع فمرد ذلك برأي مونفالييه الى رؤية أفلاطون وموقفه من هؤلاء حيث يأخذ أفلاطون على السفسطائيين تلقيهم المال مقابل الدروس التي كانوا يلقونها في حين أن سقراط كان يقدم دروسه مجاناً وبسخاء لكن كيف كان يحصل على قوت يومه ؟ أفلاطون ينحدر من أسرة أرستقراطية عريقة في أثينا يعود أصلها من جهة أمه لصولون مؤسس الديمقراطية الأثينية ومن جهة أبيه لملوك أثينا الأوليين لذلك لم يكن محتاجاً الى العمل ليكسب قوته فعلاقته بالعالم كانت علاقة تأمل حر لايخضع لأي ضغط مادي بينما ينحدر السفسطائيون من الطبقة الوسطى وهم بحاجة الى كسب لقمة عيشهم على غرار أساتذة الفلسفة في عصرنا الذين ينتمون في ممارساتهم اليومية للتقاليد السفسطائية ولكن بالعودة إلى مراسلات أفلاطون وفي الرسالة الثالثة عشر نجد أن هذا الأخير الذي ينعت السفسطائيين بأشد العبارات قسوة كونهم يتحفزون لهدف الربح لم يتردد في طلب المال من الطاغية ديونيسيوس لقاء تقديم المشورة له في إدارته.
أيضاً يتحدث الكاتب عن الفيلسوف « كانط» الذي يمكن القول عن العلاقة بين فكره الفلسفي وموقفه حيال المال أنها تظهر في مؤلفه « الأنثروبولوجيا» حيث ينتقد من وجهة نظر براغماتية الجشع وقد كان سلوكه منسجماً مع نظريته وكان كريماً مع محيطه وفي الوقت الذي كان يعمل فيه أستاذاً جامعياً يتلقى راتبه من طلابه بشكل مباشر كان يسمح لبعضهم بمتابعة محاضراته مجاناً مثل فازيانسكي أحد الذين عملوا في مكتبه كسكرتير له والذي نفذ وصيته بعد مماته وقدم لنا مذكراته حول مؤلف « نقد العقل الخالص» لقد كان أخلاقياً في تعامله مع المال ومنسجماً مع فلسفته.
وعن الفيلسوف لوكيوس سينيكا الذي توجه إليه الانتقادات بسبب التناقض بين ثروته وكتاباته يقول مونفالييه : هنا يبدو التناقض واضحاً عند الفيلسوف الرواقي سينيكا فهو من جهة لايكف عن ازدرائه للمال قولاً وكتابة والدعوة الى التقشف والزهد في الوقت الذي كان فيه أحد أغنياء عصره وقد أدرجه المؤرخ تاسيتوس في المنزلة الرابعة من حيث ثروته قياساً بثروات الرومان كما كان سينيكا مرابياً شرساً يقرض الناس على أمل تحصيل فوائد مرتفعة منهم ثم يطالبهم بالدفع الفوري ومع أنه في تلك العصور كان يتم الإلحاح على أن تكون حياة الفيلسوف منسجمة مع كتاباته لكن عند سينيكا كان الأمر إشكالياً.
أما عن جان بول سارتر والمال يقول مونفالييه : كان سارتر كريماً الى أبعد حد حيث كان يسحب دفتر شيكاته قبل أن يطلب إليه ذلك وكما جاء في مذكرات سيمون دوبوفوار أنه في نهاية حياته لفرط ماكان يوزع أمواله يمنة ويسرة لم يعد لديه مايشتري به حذاء وأعتقد أن هذا الكرم المفرط ناجم عن رد فعله الساخط على العالم البورجوازي وكراهيته له، فيلسوف الوجودية كان يمدح موضوع الإنفاق المفرط مقابل التدبير البورجوازي كسياسة « الأب المدبر « الذي يهتم بالعلاقة بين الدخل والإنفاق.
ومما جاء في الكتاب حول كارل ماركس والبحث عن جذور ثورته على الظلم الاجتماعي والبؤس والاستغلال يقول الكاتب : في أعوام الخمسينات من القرن التاسع عشر حيث كان يقيم في لندن واجه ماركس صعوبات مادية ومالية كبيرة روى تفاصيلها في رسائله الى أنجلز عن معاناته مع أسرته من الجوع والمرض حتى أن أحد أطفاله ( ادغار ) مات من سوء التغذية وبقي وضعه كذلك حتى العام ١٨٦٤ الى أن وافقت أمه إعطاءه حصته من الميراث ماخفف من ضائقته المالية وخلال تلك الفترة بدأ يشتغل على كتابه « رأس المال « الذي صدر أول جزء منه عام ١٨٦٧ واصفاً تلك الأيام التي قضاها في هذا العمل بالقول : « لاأحسب أن أحداً قط كتب عن النقود وجيوبه خاوية الى هذا الحد ويعلق مونفالييه بالقول : أود التأكيد على هذه النقطة لأن كثيرين يسخرون من ماركس ويقولون إنه بورجوازي لم يعمل قط ولم يلتق البروليتاريا إلا في المكتبات، قد يكون ذلك صحيحاً لكنه عرف طوال تلك الفترة حياة مادية صعبة جداً قربته رغم كل شيء من بروليتاريا عصره ووجهت فكره حول قضايا المال والعمل والاستغلال.
وعن رواج بيع كتب الفلسفة يقول مونفالييه : اذا كنت ترغب في بيع كتبك فالأفضل أن تستجيب لرغبات القراء وأن تقدم لهم عدداً كبيراً من كتب الفلسفة حول السعادة ولا أدري أيها يشعرهم بالسعادة كما يقال وأن نرى منها نماذج جديدة كل أسبوع على طاولات المكتبات أفضل من القول في تلك الفلسفة ان حياتنا دون معنى محكومة بالعدم والموت فذلك لايساعد على البيع وفي الواقع فإن الكتب المحسوبة على الفلسفة في الغالب لاتباع كثيراً في حياة مؤلفيها فقد توجب مرور خمس سنوات لترويج ألف نسخة فقط من من مؤلف «رأس المال» لكارل ماركس بينما أثار هذا المجلد بعد قرن من الزمن خصومات ايديولوجية على امتداد القرن العشرين .. في الأدب مثلاً لدينا فلوبير وبروست كانا متحررين من أية قيود مالية ولم يكن أي منهما ينتظر الحصول على حقوق الطباعة والنشر لدفع إيجاره وهناك كتاب يبيعون ملايين النسخ خلال حياتهم ويصبحون أغنياء لدينا أمثلة كثيرة من هؤلاء في فرنسا مثل سيمونون الذي حقق ثروة كبيرة وهو كاتب شعبي بصبغة أدبية وفلسفية.. أخيراً لابد من القول إن الفلاسفة كغيرهم من البشر هم بحاجة إلى المال ولابد أن يبحثوا عنه كي لاتشغلهم ظروف الحياة عن تأملاتهم وأفكارهم.
التاريخ: الثلاثاء11-1-2022
رقم العدد :1078