الثورة – قراءة فاتن أحمد دعبول:
من يتابع سيرته الغنية الوطنية، وجهوده على مدى عقود في مجال الإعلام ورئاسته لاتحاد الصحفيين في مراحل غاية بالصعوبة والنضال، سيجد من الإنصاف أن نقول إنه كان أحد أفراد الجيل الذين ظلوا أمينين على الجذور والأصول والتراب، والمتمسكين بالمبادئ رغم كل الأوجاع.
إنه الدكتور صابر فلحوط الذي وثَّق أحداثاً، ورصد كل تفاصيلها على مدى عقود في إصداره الجديد “ذكريات وهموم واهتمامات” والذي قدمت له دار البعث على غلاف مؤلفه بعبارات مختصرة لكنها معبرة عن هذه الحقيقة، قائلة: “لو اجتهد الصوان أن يرتدي درعا أكثر صلابة، لاستعار بعضاً من جسارة وعناد جيل صاحب هذه المذكرات الذي تمرس بالأوجاع، وتقلب على مجامر الصبر والحرمان والتمرد والعنفوان، وظل أميناً على الجذور والأصول والتراب”.
احتضن مؤلف الدكتور فلحوط بين دفتيه هموماً اختصرت هوية جيل البدايات وتطلعاته وأحلامه التي كانت إذا تواضعت تعبد الطريق إلى الشمس وتقطف النجوم الزواهر لتجعلها خلاخيل لخيول الفرسان.
يقول في مقدمته: إن هذه المذكرات ليست ترويجاً لحزب أو سياسة أو نظرية جديدة، وإنما هي نشر صفحات مطوية من حياة تمثل أوضح صور الكدح والتحدي، علها تصلح موعظة لجيل ولد على بساط اليسر والبحبوحة، أو في عين العاصفة وكبد الحرمان، فتدفعه هذه الوقفات أمام جدران التحديات، ليودع اليأس والإحباط والقنوط، ويبدأ الحياة خائضاً لجتها، مستهلاً صعابها، مستهيناً بفواجعها ومواجعها وتحدياتها.
ولجأ الدكتور فلحوط في تدوين خواطره وصفحات من كتاب حياته، بأسلوب المزج بين استحضار الأمس واستشراف المستقبل على ضوء الحاضر المعاش، ولم يعتمد أسلوب المذكرات والتأريخ للماضي، لإيمانه بأن تاريخ الإنسان، مهما يكن متواضعاً فإنه فانوس مضيء يسير أمامه وليس خلفه.
وقد أتاح له عمله في الصحافة المطبوعة والمسموعة والمرئية لأكثر من أربعين عاماً بينها ست وثلاثون سنة، رئيساً لاتحاد الصحفيين في سورية، ونائباً لرئيس اتحاد الصحفيين العرب، لقاء نخبة من القادة والرؤساء والملوك والأمراء وعيون القوم وسادة الرأي منذ خمسينيات القرن الماضي، ومروراً بالعديد من الأسماء الخالدة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ومطالع القرن الحادي والعشرين، الذي تتذوق البشرية عسله المر، وتحصد زؤانه وشوكه الدامي.
في جبل العرب
كان ميلاده في ثلاثينيات القرن الماضي في مغارة بين أحراج السنديان في جبل العرب، حيث كانت النسوة تلوذ حذر الطائرات الفرنسية التي كانت تقصف السويداء إبان الاستعمار الفرنسي، وقد تزامن هذا مع إصابة والده في إحدى المعارك بين الثوار في الجبل وجيش المستعمر الغازي، وقد عاش طفولته في قرية “عتيل” وتبعد عن السويداء خمسة كيلومترات، ومن حسن حظها أنها كانت تملك مدرسة توحي بمستقبل واعد لأبناء الفلاحين المنغرسين في الأرض المعطاءة.
ويروي كاتب السيرة ظروف الحياة القاسية التي عاشها والفقر المدقع والحرمان حتى كان العيد يأتي قبل أن يتمكن والده من تأمين قميص جديد للعيد أو حذاء، ما يدفعه إلى النأي بنفسه تلافياً للحرج وغمزات الأتراب الميسورين، ومحاولة العمل في أيام العطلة الصيفية لتأمين تكاليف المدرسة.
* مضافات ثقافية..
ولأن العادات والتقاليد المتوارثة في الكرم فرضت أن يكون في كل بيت “مضافة” يجتمع فيها الضيوف، عمل أهالي الضيعة أن تكون هذه المضافات بمثابة نوادٍ ثقافية تلقى فيها الأشعار وتغنى القصائد على الربابة، كما تروى فيها حكايات الفروسية والبطولات، لتصبح مدارس للأطفال يتعلمون فيها القيم ويرضعون من ضروعها المناقبية المحمودة، تترسخ في أذهانهم لتصبح لهم زاداً لا ينفد.
وفي هذه الأجواء المجللة بالكرامة ومكارم الأخلاق وعشق البطولة تعلم الدكتور صابر الكثير وحفظ الغزير من الشعر، فكتب الشعر وهو في العاشرة من عمره، وانجرف مع موجة روحية روج لها أصحابها، وهي موجة رغم أنها تعتقل العقل، لكنها تفتح للقلب والعواطف والخيال فضاءات وسماوات لا حدود لها، فكتب الأشعار في تمجيد الأئمة والصالحين، ودعا إلى الزهد والتصوف والتوجه للسماء، وكانت البداية إلى الإدمان على قراءة الشعر وحفظ العيون منه.
* نقلة نوعية..
شكلت مرحلة الجامعة نقلة نوعية في حياته، واستطاع أن يكون عضواً في حزب البعث العربي الاشتراكي، وكان عضواً فاعلاً مشاركاً في العديد من أنشطة الجامعة وخصوصاً في الاستفتاء على الوحدة بين مصر وسورية، وكان جامع الكسوة أول منبر يطل منه على المصلين لتحفيزهم للتوجه إلى صناديق الاستفتاء بأصوات التأييد للوحدة والأمل بجعلها فاتحة لصحوة الأمة وانبعاثها عظيمة موحدة من المحيط إلى الخليج.
وبعد ذلك اختير ليكون مندوباً للجامعة وكان عريف حفل حضره الزعيم عبد الناصر، وكُرِّم مع غيره من مندوبي الجامعات في حفل استقبال في نادي الجزيرة، وقدم نفسه ببضع أبيات ما دفع بالرئيس لاحتضانه، ومن بعدها أتيح له فرصة متابعة الدراسة في مصر.
وتتوالى الأحداث
وتتالت الأحداث في حياة الدكتور فلحوط بين مد وجزر، وربما كان لحياته الزاخرة بأسماء العديد ممن شكلوا فرقاً في تاريخ تلك المرحلة، دور بارز في تفاعله، وخصوصاً أنه استطاع وبكفاءة عالية أن يكون حاضراً وفاعلاً في العديد منها، وقد تبوأ غير منصب ومقعد في مراحل عديدة، وكان قريباً من أصحاب السيادة والقرار، وقد ضمن كتابه البالغة عدد صفحاته 196 صفحة من القطع الكبير، الكثير من الصور التوثيقية التي تؤكد دوره في الأحداث المحلية والعربية والدولية.
استطاع مؤلفه أن يؤكد لنا أن كل إنسان يحمل في يده أو في عقله أو في قلبه فانوسه الخاص الذي يبحث به وفي ضوئه عن المثل العليا التي يحلم بها ويستريح إليها، وقد يعيش الإنسان ويموت دون أن يجد هذا الذي يبحث عنه.. مؤلف متكامل، ينتقل بتسلسل منطقي من مرحلة إلى أخرى، مكتوب بنفس القلم البسيط المبدع، ما يدفع القارئ على إكمال قراءته حتى آخر حرف، عبارات سهلة بسيطة، تدفعك دفعاً نحو النهاية.