الفن التشكيلي ترف بصري.. أم شاهد على وجع جماعيّ؟!. يحيى لـ “الثورة”: إما أن نصنع فناً يوازي ماعشناه من ألم.. وإما نضيع بالجميل
الثورة – رانيا حكمت صقر:
“الفن التشكيلي السّوري لم يعد مجرد زخرفة أو ترف، بل تحوّل إلى شهادة حيّة على معاناة شعب بأكمله، وأداة توثيق تعبّر بقوة عن وجع الوطن،و تأثيرالتحرير فتح الباب لمبدعين كسروا حاجز الصّمت وعبّروا عن الألم والكرامة على خشبة الإبداع”.
هذا ما أكده رئيس اتحاد الفنانيّن التشكيلييّن في سوريا محمد صبحي السيد يحيى في حوار شفيف مع صحيفة الثورة عن الفن التشكيلي ومرحلة التحرر والحرية، فبرأيه “الفن التشكيلي السوري يعيش واحدة من أخصب مراحله وأكثرها حساسيّة والفن أداة توثيق وتعبير تعادل في قوتها أي وثيقة سياسيّة أو صحفية بعد التحرير، كُسر الحاجز النفسي الذي كبّل الفنان سنوات طويلة، فخرجت من مرسمه أصوات كانت صامتة، وتحوّلت اللوحات إلى صرخات بصريّة توثّق الألم والمعاناة والبحث عن الكرامة.
ويعود بنا السّيد إلى الحرب العالميّة الثانية في أوروبا، حين خرج فنانون مثل أنسيلم كيفر في ألمانيا ليرسموا بالرماد والرصاص ذنب أمتهم، وألبيرتو جياكوميتي في فرنسا الذي صوّر هشاشة الإنسان بعد الحرب عبر تماثيله النحيلة، كذلك يفعل فنانون سوريّون اليوم في محاولاتهم لتصويرالمعتقلات والمجازر، لا تجميلاً، بل مواجهة.
أما عن أثر الانفتاح الأوروبي ورفع العقوبات الاقتصاديّة على الحركة التشكيليّة في سوريا يقول السيّد يحيى :” إن الانفتاح يعني بالدرجة الأولى خروج الفنان من العزلة حيث بدأ الفنانون السوريّون يشاركون في معارض دوليّة بفيينا، روما، باريس، وباقي عواصم العالم، حاملين أعمالهم التي توثّق المعتقل، الدمار، والرحلة الوجوديّة للإنسان السّوري.
كما أصبح الفنان المغترب جزءاً من الجسر الحضاري الجديد، الفنانون السوريّون في المهجر لم ينقطعوا عن قضايا وطنهم، بل عادوا إلينا بأدوات وأساليب وخبرات اكتسبوها من بيئاتهم الجديدة.
هؤلاء الفنانون يشكّلون رافداً حيوياً للحركة التشكيلية، سواء عبر مشاركاتهم في المعارض داخل سوريا، أو من خلال ورشات العمل المشتركة، أو تقديم خبراتهم في بناء مؤسسات فنية حديثة.
تجربتهم في التعاطي مع السوق الفني العالمي تشكّل مكسباً ثميناً للحركة التشكيلية الوطنية.
هذا المشهد يذكّرنا بتجربة البوسنة بعد الحرب، حين وثّق فنانون مثل إدان صالحوفيتش مجازر سريبرينيتسا، لا للفن وحده، بل لمحاكمة التاريخ .
“مؤكداً أن الفن السوري اليوم يؤدي دوراً مشابهاً”.
نحن أمام لحظة نادرة، العالم ينظر إلينا لا بفضول شرقيّ بل بإصغاء إنساني. وقدّم فنانون مثل تمام عزام أعمالاً دمجت صورالحرب بالتراث العالمي، بينما تناولت لوحات يوسف عبدلكي الاعتقال السياسي والموت بجرأة صامتة.
أعماله مثل “الجمجمة” و”السجين” باتت رموزاً للعنف الذي مرّت به البلاد. ومن الفنانين الذين لعبوا دوراً محورياً في توثيق ذاكرة العنف السوري، إبراهيم برغود، الذي هُجّر قسراً مثل كثير من رواد الفن السوري، وحوّل أعماله إلى شهادات بصرية تحاكي الضمير الجمعي ورسالة إنسانية عبر مشاهد الاعتقال والوجوه المعذّبة.
فقد شارك برغود في معارض ومتاحف دولية تناولت المعتقلات وانتهاك حقوق الإنسان واغتصاب الطفولة في الشرق الأوسط، ولاقت أعماله اهتماماً نقدياً في أوروبا بفضل مزجه الرمزالإنساني بالمعاناة الجمعية، مقدّماً الجسد كوثيقة صامتة للألم والذاكرة المقموعة .
اما أبرز التحديات التي تواجه الفن التشكيلي السوري بعد التحرير فأشار السيد يحيى إلى أن التحديات كثيرة لكنّها قابلة للتذليل متى توفّرت الإرادة المؤسسية والثقافية قائلاً: نواجه غياب البنية التحتية (صالات، متاحف، سوق فني منظم)، ضعف التسويق، وانعدام الدعم للفنانين الشباب.
لذلك نخطط في الاتحاد إلى: تأسيس صندوق دعم دائم للفنانين وصندوق تأمين صحّي أسوة بباقي دول العالم، وإقامة معارض دولية دورية في العواصم الفنية الكبرى.
وترميم الصالات المتضررة في دمشق، حلب، دير الزور وباقي المحافظات.
وإطلاق أرشيف رقمي يوثق التجربة التشكيلية السورية خلال الحرب، على غرار أرشيف “فن ما بعد الحرب” في ميونيخ.
وتفعيل شراكات مع الفنانين السوريين المغتربين للاستفادة من خبراتهم وشبكاتهم الدوليّة في بناء مؤسسات الفن السوري المعاصر.
لا يمكن لفن أن يزدهر في فراغ إداري أو ثقافي.
نطمح إلى منظومة تحتضن الفنان، وتؤمن بأن ريشته لا تقل أهمية عن أقلام المؤرخين، علماً أن للفن التشكيلي دوراً مستقبلياً في المصالحة الوطنية أو إعادة البناء.
الفن هو أكثر ما يوحّد الشعوب حين تختلف السياسات
قائلاً السيد يحيى: نعمل على مشروع وطني لإنشاء متحف الفن السوري ما بعد الحرب، يكون ذاكرة بصرية ومرآة مجتمعية.
ففي فرنسا، أصبحت غرنيكا لبيكاسو رمزاً عالمياً ضد القمع. كذلك نرى أعمالاً مثل لوحات صفوان دحدوح، وأسعد فرزات، وعبد الحميد فياض وقد تحوّلت إلى توثيق بصري للمجازر والانتهاكات التي عانى منها السوريون في معتقلات سرية وصور لم تُرَ إلا من خلال الفن.
في المستقبل، نطمح لتكثيف الفن العام (جداريات، منحوتات) في كلّ المدن السورية، ونشر معارض متنقلة داخل سوريا.
الفن ليس نخبوياً فقط؛ بل يجب أن ينزل إلى الشّارع، إلى المدرسة، إلى الحدائق، بمشاركة فنانينا في الداخل والخارج معاً .
كما وجه السّيد يحيى رسالة للفنانين التشكيليين السوريين في هذه المرحلة أن يكونوا شهوداً لا متفرجين و أن يختاروا الصدق على الصنعة ، والجرأة على التجميل. خاتماً بالقول:” الحرب ستكتب في الكتب، لكن الفن وحده يحفظ ما لا يمكن قوله، تماماً كما فعل جورج بازليتز في ألمانيا الشرقية، وجان فوترير في فرنسا، حين واجهوا الذاكرة القاتلة بريشة غير خائفة.
سوريا اليوم على مفترق طرق فنّي: إما أن نصنع فناً يوازي ما عشناه من ألم، أو نضيع لحظة نادرة في التجميل والتسويق وأنا على ثقة أن فنانينا في الداخل والمغترب سيكتبون معاً صفحة ذهبية في تاريخ الفن التشكيلي السوري والعالمي..”