الملحق الثقافي: ترجمة: د.ثائر زين الدين:
بقينا طوال السنوات المئة والخمسين، التي تلت وفاة بطرس الأول نعيشُ في وئام مع الحضارات الإنسانيّة ونتقرّب من تاريخها وأفكارها، فتعلّمنا, بل عَلّمنا أنفسنا أن نحبّ الفرنسيين والألمان، قُل الجميع وكأنهم أخوتنا, بغض النظر عن أنّهم لم يحبونا قط, نعم وكأنّهم قد قررّوا ألا يحبّونها أبداً.
تمثلت كل إصلاحاتنا في مرحلة بطرس الأول: أننا وخلال ذلك الزمن الطويل أخذنا عن تلك الحضارات «توسيع» وجهة نظرنا ورؤيانا, اللتين لم نعرف أنهما وجدتا عند أي شعب من الشعوب في القديم أو في العالم الحديث.. إن روسيا ما قبل بطرس كانت قويّة وعمليّة على الرغم من أنها كانت تتطوّرُ ببطء, وقد أعدّت الوحدةَ، واستعدّت لربط أطرافها إلى المركز وقد استطاعت أن تفهم ما ستجلبه لها الجوهرة المخبّأةُ في أعماقها «الأرثوذكسيّة», وهي المؤتمنةُ على حقيقة المسيح, وحقيقة الحقيقة لشكل المسيح الحق, وهذا ما يتم التعتيم عليه في كل المعتقدات الأخرى, وعند كل الشعوب إن هذهِ الجوهرة الأبديّة المرتبطة بروسيا, والموكلة إليها لحفظ الحقيقة – حسب وجهة نظر النخبة الروسية في ذلك الوقت – خلّصت ضمائرهم من ربقة الالتزام بأي تعاليم أخرى, والأكثر من ذلك أنهم فهموا في موسكو بأن كل اقتراب من أوروبّا يمكن أن يضر العقل الروسي وقد يخرّبه ويُمرض «الفكرة الروسيّة»، ويفرغ الأرثوذكسية من أصالتها, ويحمل روسيا إلى طريق الهلاك «على غرار الشعوب الأخرى كلها».
وهكذا فإن روسيا القديمة لم تكن مُحقّة, ومهّدتْ أن تُتّهمَ أمام الإنسانيّة بذلك لأنها خبّأت جوهرتها «أرثوذكسيتها» في قرارة نفسها عن أوروبّا, أي عن الإنسانيّة شأن أولئك المنشقين الذين يرفضونَ الأكل من آنية غيرهم, معتبرين أن ملاعقهم وفناجينهم إنّما هي أشياء مُقدّسة.. إن هذهِ المقارنة صحيحة لأن كثيراً من العلاقات الروحيّة والسياسيّة مع أوروبّا كانت قد نمت عندنا قبل بطرس الأوّل, ثمّ جاءت إصلاحات بطرس الأكبر لتؤكد أن لا بديل من توسيع وجهة نظرنا, ومن ثمّ كانت المأثرة الكبرى لبطرس في انفتاح روسيا على أوروبّا.
إنّ الجوهرة التي تحدّثتُ عنها أعلاه, هي نفسها التي تكلّمتُ عنها في أحد الأعداد السابقة من «اليوميّات», والتي كنّا – نحنُ الطبقة المثقّفة في روسيا – قد أعدناها إليها بعد مئة وخمسين عاماً من غيابها, والتي يتوجّب على الشعب الروسي أن يتقبلها منا Sine qua non , نحن الذين ننحني أمام حقيقته, «فمن دونها لا يمكن لوحدةٍ طبقيّة أن تتحقق أو تبدو ممكنة ودونها سيموتُ كل شيء ».
ما الذي تعنيه مسألةُ «توسيع الرؤيا أو وجهة النظر»؟ ما المقصود بها؟
إنها ليست تنويراً بالمعنى الدقيق للكلمة, وليست علماً, وفي الوقت نفسه ليست خيانة لبدايات الشعب الروسي الأخلاقيّة من أجل الحضارة الأوروبيّة: لا فهي ليست مسألة خاصة بالشعب الروسي وحده, وإن كانت تعبّرُ أساساً عن حبّنا الأخوي للشعوب الأخرى التي عايشناها على مدى قرن ونصف القرن, إنها حاجتنا لخدمةِ الإنسانيّة ولو على حساب مصالحنا الكبيرة الخاصة, إنها المصالحة بين حضارتينا مع إدراكنا عدم التوافق بين رؤانا وأفكارنا من جهة ورؤاهم وأفكارهم من جهة أخرى, بل قلْ ذواتهم الأوروبيّة, مع محاولتنا إيجاد الحقيقة التي تتضمنها فروع الحضارة الأوروبيّة, على الرغم من أن الكثير مما لمسناهُ لا يمكن أن نوافق عليه.. وفي النهاية هي الحاجة لأن نكون عادلين, وأن نبحث عن الحقيقة فحسب, وباختصار يمكن لهذا الأمر أن يكون البداية, أو الخطوة الأولى لدور جوهرتنا «أرثوذكسيتنا» في خدمة الإنسانيّة.
من خلال إصلاحات بطرس الأول توسّعت فكرتنا القديمة, الفكرة الموسكوفيّة الروسيّة وازددنا فهماً وتعمّقاً في حقيقة دورنا ومهمتنا الكبرى, وخصوصيتنا ضمن الإنسانيّة, ولم يكن باستطاعتنا أن ننكر أن مهمتنا ودورنا لا يشبهان ما لغيرنا من الشعوب, لأن كل خاصيّة شعبيّة تعيش لنفسها وفي نفسها, ونحُن نبدأ الآن عندما حان الوقت لأن نكون خدماً للمصالحة العامة, وهذا ليس شيئاً معيباً بل العكس, ففي هذا تكمُنُ عظمتنا حيث إن كل ذلك سيؤدي إلى الوحدة النهائيّة للإنسانيّة, لأن كل من يُريد أن يكون أعلى من الجميع في المملكة الإلهيّة عليه أن يكون خادماً, هكذا أفهمُ الرسالةَ الروسيّة في فكرتها الأساسيّة.. وكنتُ قد حددتُ بنفسي الخطوة الأولى لسياستنا الجديدة بعد بطرس الأوّل, وهي وحدةُ «الشعوب السلافيّة» تحت جناح روسيا, وهذا لن يكون احتلالاً أو باستخدام القوّة, وليس عبر القضاء على الخصوصيّات السلافيّة وإبدالها بالرّوسيّة, وذلك على طريق إعادة تأسيس علاقة وثيقة مع أوروبا ومع الإنسانيّة عامة, وإعطائهما الهدوء والراحة في النهاية بعد كل المآسي التي مَرّت بهما والتي لا تحصى.. آه طبعاً يمكن أن تضحكوا وتسخروا من هذهِ «الأحلام القديمة!», ويمكنكم أن تقولوا – فيما يتعلّق بهذهِ الرسالة الروسيّة – إنَّ ليسَ كل روسي يتمنّى انبعاث السلافيّة على هذهِ الأسس من أجل حريّة الشعوب الكاملة وتجدد روحها, وليس أيضاً من أجل أن تسيطر روسيا سياسياً على تلك الشعوب ومن ثمَّ تقوّي قدراتها, وهذا ما تتهمنا به أوروبّا, أليسَ كذلك؟ وكأن الأمر تبرير لجزءٍ من الأحلام القديمة؟ ومن أجل هذا الهدف يصبح من البديهي أن تكون القسطنطينيّة لنا أولاً وآخراً…
يا إلهي كم هي مضحكة الابتسامة التي يمكن أن تظهر على وجه أي نمساوي أو إنكليزي لو توافرت لأحدهما أن يقرأ كل هذه الأحلام «المذكورة أعلاه», وأن يصل في قراءته فجأةً إلى هذه الخاتمة الموضوعيّة:«القسطنطينيّة القرن الذهبي », وهي أول مركز سياسي في العالم, فهل هذا احتلال؟.
سأجيب أنا: القرن الذهبي والقسطنطينيّة سيكونان لنا, ليس بهدف الاحتلال والإكراه, بل سيحدث هذا من تلقاء نفسه, لأن الوقت قد حان, وإذا كان لم يحن بعد فإنّه أصبح قريباً جداً, وهناك مؤشرات على ذلك.. هذا هو الحل الطبيعي, ويمكن القول إن هذه هي كلمة الطبيعة نفسها, وإذا لم يحصل ذلك من قبل فإن السبب يعود لعدم نضوج الوقت بعد.. يعتقدون في أوروبّا أن بطرس الأكبر «تركَ وصيّةً ما», وما هذا إلا ورقة مكتوبة منة قبل البولونيين, ولو أن فكرة احتلال القسطنطينيّة خطرت لبطرس أثناء تأسيسه لمدينة بطرسبورغ, لتركها في حينها لعدة أسباب كما أتصوّر, حتى لو كان يمتلك القوّة الكافية للقضاء على السلطان, وذلك لأن الوقت لم يكن مناسباً, ومثل تلك الخطوة قد تجلب النهاية لروسيا.
إننا لم نتجنّب أيام بطرسبورغ التشيخونيّة بتأثير جيراننا الألمان, ومع أن هذا التأثير كان بصورةٍ ما مفيداً لنا لكنّه شَلّ إلى حدٍ كبير من التطوّر الروسي الواعد.. وقد تجنبنا تأثير اليونانيين- الأكثر رقّةً من الألمان الأغبياء – أيام القسطنطينيّة العظيمة الفريدة من نوعها، وهي التي ورثت الكثير من أقدم وأقوى الحضارات.. قد كانت تجمعنا مع اليونانيين نقاط التقاء كثيرة, خلافاً للألمان الذين لا يشبهوننا, والذين كانوا يشكّلون حاشية القيصر، وكان باستطاعتهم – لو طال بهم الأمر – أن يطوّقوا العرش, فينالون الحظ الأوفر من التعليم ويصبحون علماء قبل الروس, ولا يخيّبونَ أملَ خلفاء بطرس على العرش فحسب, بل أمل بطرس نفسه, طاعنين إياه في نقطة ضعفِهِ الوحيدة, وهي قدرتُهُ على الملاحة ومعرفتهُ بها، وبكلمة واحدة: لكانوا قد امتلكوا روسيا سياسيّاً ونقلوها إلى طريقٍ آسيويٍ ما، أي إلى انطوائيّة كاملة, وهذا لم يكن باستطاعة روسيا تحمّله.. وكان يمكن أن يؤدي إلى فقدان روسيا قوميّتها وخصوصيّتها، فيصبح الروسي القوي معزولاً في شماله الثلجي الحزين, ويمسي مادةً لخدمة «تسارغراد».
ويصبح الجنوب الروسي كلّه تحت سيطرة اليونانيين، وكان يمكن أن تنقسم الأرثوذكسيّة إلى فئتين: «التسارغراديّة المحدثة والروسيّة القديمة..» باختصار كل ذلك لم يكن في وقته، أما الآن فالأمر مختلف, فقد أصبح لروسيا وجودها وحضورها في أوروبا, وهي الآن متعلمة, والأمر الرئيسي أنها عرفت مكامن قوّتها, وأمست قويّةً ومؤهّلةً لأن تكون أقوى.. وأدركت أن «تسارغراد» يمكن أن تكون لنا, ولكن ليس عاصمةً لروسيا.. لو أن بطرس الأول قد احتل «تسارغراد», فما كان بإمكانه إلا أن ينقل عاصمته إليها، وهذا أمرٌ مدمّرٌ لروسيا لو حدث, لأن هذه المدينة ليست في روسيا ولا يمكن أن تكون روسيّة.. وقد تجنّب بطرس هذه الغلطة, لكن ذلك لا يعني أن حلفاءَها يستطيعون فعل ذلك.. وحتّى لو سَلّمنا أن تسارغراد يمكن أن تكون لنا ولكن ليس العاصمة لروسيا، فإنها بطبيعة الحال لا يمكن أن تكون عاصمة للسلافيّة مثلما يحلم بعضهم.. إنّ السلافيّة دون روسيا سوف تنهي صراعها مع اليونانيين, حتى لو استطاعت أن تجمع من أجزائها وحدةً سياسيّةً، وهي في كل الأحوال لا تستطيع أن تورّث القسطنطينيّة لليونانيين وحدهم, وأن تعطيهم ذلك الموقع المهم من الكرة الأرضية, لأن ذلك سيكون أكبر من حجمهم بكثير. آه، أما حين تكون روسيا على رأس السلافيّة فسيكون الأمر، مختلفاً, لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا الأمر مفيد؟ ألا يؤدي ذلك إلى سيطرة السلافيين السياسية على روسيا؟
إنّ هذا ما لا نريده أبداً!
من أجل ماذا, وبأي حق أخلاقي تطالب روسيا بالقسطنطينيّة؟ واستناداً إلى أي أهدافٍ عُليا يمكن أن تطلبها من أوروبّا؟.
إن جوابي عن ذلك: هو أن روسيا تُعدّ زعيمة وراعية حامية للسلافيّة, وقد أوكل هذا الدور لها منذ أيام إيفان الثالث, الذي جسّد هذا الأمر في الشعار «التسارغرادي» النسر ذي الرأسين، الذي لم يظهر إلا في أيام بطرس العظيم عندما وجدت روسيا في نفسها القوّة لتنفيذ مهمتها وأصبحت الراعية الفعلية والوحيدة للسلافيّة وللشعوب التي تعتنقها.. إن هذا هو السبب الذي أعطى لروسيا الحق في «تسارغرادالقديمة», وكان من الممكن لهذا السبب أن يكون مفهوماً وغير مزعج لأكثر السلافيين غيرةً على استقلالهم وحتّى لليونانيين أنفسهم.. نعم وبذلك كان يمكن أن يتحدد الجوهر الأساسي لتلك العلاقات السياسيّة، التي كان يجب على روسيا أن تنتهجها مع كل الشعوب الأرثوذكسيّة- السلافيّة أو اليونانيّة وأن تكون راعية وزعيمة لهذه الشعوب ولكن ليس مالكة لها, أن تكون أُمّاً لها وليسَ سيّدةً عليها، حتى إذا ما أصبحت حاكمةً لهذه الشعوب, ولكن ليس مالكة لها، فسيكون الأمرُ نزولاً عند رغبتها فحسب, مع الحفاظ على كل ما تحددُ استقلاليتها وذاتيتها.
وهكذا يمكن أن ينظم إلى هذا الاتحاد يوماً ما ليس فحسب الأرثوذكس السلافيين الأوروبيين! ولو حصل ذلك فعلاً لكانوا قد رأوا بأن الوحدة تحت حماية روسيا ليست إلا توطيداً لاستقلاليّة ذواتهم كل على حدة.. فمن دون هذه القوّة الموحدة الجبارة يمكن لتلك الشعوب أن تنجز إلى نزاعات وصراعات متبادلة فيما بينها, حتى لو استقلت سياسياً عن المسلمين والأوروبيين الذي تخضع لهم.
سيقولون لي لماذا تتلاعب بالكلمات: «ما هي الأرثوذكسية؟, وما هي هذه الفكرة الخاصة والحق في وحدة الشعوب السلافيّة؟ أليس ذلك هو اتحاد سياسي بحت مثله مثل غيره من الاتحادات, حتى لو على أسس أوسع, كالولايات المتحدة الأميركيّة, أو أوسع من ذلك؟» هذا هو السؤال الذي يمكن أن يطرح وأجيب عليه بالنفي.. إن هذا الاتحاد ليسَ كذلك, وليس لعباً بالكلمات، لكن سيكون فعليّاً شيئاً خاصاً لم يسمع عنه من قبل, ولن يكون اتحاداً سياسيّاً فحسب, وليس من أجل الاحتلال السياسي والعنف أبداً, مثلما تتصوّر أوروبّا, وليس باسم التجارة والفوائد الخاصة والأبديّة, وكل الرذائل المؤلّهة تحت شعار المسيحيّة الرسميّة, والتي لا يثق بها سوى الرعاع من عامة الناس فحسب.
بل سيكون الأمرُ تشييداً فعلياً للحقيقة المسيحيّة الباقية في الشرق, وتشييداً حقيقياً جديداً, لصليب المسيح, والكلمة الفصل للأرثوذكسية التي تقف روسيا على رأسها منذُ زمنٍ بعيد.. وسيكونُ إغراءً لكل الأقوياء الذين انتصروا في العالم حتى الآن, ونظروا دائماً لمثل هذه «التوقعات» بالاحتقار والسخرية دون أن يفهموا ضرورة الثّقة بالأخوّة الممكنة بين الناس, وبالمصلحة العامة للشعوب في اتحادٍ مبني على أسس خدمة الإنسانيّة, وأخيراً في إعادة الناس إلى الأسس الحقيقيّة لتعاليم المسيح.
وإذا عدّوا الاعتقاد «بالكلمة الجديدة»: أن تكون روسيا على رأس وحدة أرثوذكس العالم «طوباويّاً», فإن ذلك يستدعي السخرية فعلاً, ودعهم إذن يضمونني إلى هؤلاء الطوباويين.
وقد يعترض آخرون ويقولون إن هناك طوباويّةً أخرى وأشياءَ لا يمكن أن تحدث إلا في الحلم, ومنها أن يسمح الآخرون لروسيا أن تصبح على رأس السلافيين يوماً ما وتدخل القسطنطينيّة.
صحيح ربّما هذه أحلام… لكن روسيا قويّة, ويمكن أن تكون أقوى بكثير مما تتصوّر هي نفسها, ألم تُشيّد قوى عاتية أخرى أمام أعيننا وعلى مدى عشرة الأعوام الأخيرة وانتشرت في أوروبّا ثمّ اختفت مثل الغبار وكنّستها القدرة الإلهيّة وشيّدت مكانها إمبراطوريّة جديدة قويّة إلى درجة لم يكن لها مثيل على الأرض؟ وهل كان باستطاعة أحد أن يتنبّأ بذلك مقدَّماً؟.
فإذا كان لمثل هذه التحولات أن تحدث في زماننا وأمام أعيننا فهل بإمكان العقل الإنساني أن يتنبّأ بشكل صحيح بمصير المسألة الشرقيّة؟ في الوقت الذي تبرز فيه أسس واقعية تدعو لليأس بيوم القيامة وبوحدة السلافيين؟ هل كان هناك من يعلم ما يريد الله فعله؟.
التاريخ: الثلاثاء5-4-2022
رقم العدد :1090