الملحق الثقافي: فؤاد مسعد :
روح المكان وخصوصيته، حميميته ودلالاته وما يحمل من أبعادٍ ومعانٍ يتماهى فيها الخاص مع العام شكّل عصباً أساسياً في العديد من الأفلام السينمائية السورية، هذا العصب الذي تراوح بين الغوص في المحلية حتى العمق وبين ما يحمل المكان من دلالات الهوية والانتماء والتجذر لتبدو العلاقة عضوية وأساسية بينه وبين الفن السابع، وقد برزت خصوصية المكان في أفلامٍ لكثير من المخرجين السوريين، فكان أحد العناصر المهمة والحاضرة بقوة إن كان عبر البيئة أو الذاكرة الجمعية وأحداث ارتبطت بمنطقة معينة أو من خلال العادات والتقاليد والطقوس التي تشكل في مجموعها هوية مجتمع متكامل مرتبطة بالأرض والجذور، حتى إن هناك أفلاماً حملت في عناوينها أسماء مدن كما هو حال أفلام (دمشق حلب، دمشق يا بسمة الحزن، مطر حمص، اللجاة، ..) وضمن هذا الإطار لا بد من ذكر فيلم (كفر قاسم) إخراج برهان علوية عام 1974 الذي كان المكان أحد أبطاله وتناول مجزرة قرية كفر قاسم الفلسطينية التي قامت بها السلطات العسكرية الصهيونية.
تميز كل مخرج سينمائي سوري بإظهار المكان وفق مفهومه ورؤيته الفكرية والإبداعية طارحاً أبعاده وارتباطه بالحالة الوجدانية والعاطفية والإنسانية والوطنية، لذلك يمكن اعتبار أن الكثير من الأفلام تُمثل في أحد أوجهها ذاكرة روحيّة منسوجة من عمق الأحداث وتشكل استقراءً لمرحلة معينة، وفيما يلي نرصد لمجموعة أفلام من إنتاج المؤسسة العامة للسينما أنجزها مخرجون مبدعون أثروا الحراك السينمائي بأعمال غاصت في هوية المكان والبيئة والمجتمع ملتقطة نبض هذا التمازج الذي يعطي في إطاره العام السمة التي تميز كل فيلم.
ومن المخرجين الذين حضر المكان في أفلامهم بقوة المخرج غسان شميط، فضمن أجواء تغوص إلى تفاصيل المنطقة ومعالمها الإنسانية والمكانية قدم فيلم (الهوية) حيث ارتبط المكان فيه بحالة النضال ومقاومة المحتل، فقد دارت الأحداث بين الجليل في فلسطين ومجدل شمس في الجولان عبر حكاية تحمل هاجساً وتوقاً للحرية والكفاح، هذا التوق الذي أنهى فيه الفيلم مؤكداً أن الأرض تولّد الأبطال والمناضلين دائماً، وأبرز عبر مجريات الفيلم كيف أحرق أهل الجولان الهوية الإسرائيلية مؤكدين أن الجولان سوري ولا بد من عودته إلى بلده الأم، وفي مكان آخر نتابع مشاهد تلج عمق البيئة وتحاكي تفاصيلها الأشد خصوصية (قطف التفاح من الأرض) وما يرافق ذلك من الطقوس والأهازيج الخاصة بالمنطقة، وهناك مشهد مصادرة القوات الإسرائيلية أراضٍ فيها مياه ما دفع الأهالي إلى مقاومة قرار المصادرة ومحاولتهم ثني الجيش الإسرائيلي عما يفعل فيُجابَهون بإطلاق النار وهناك من يستشهد مدافعاً عن أرضه، وقد حمل الفيلم بشكل عام هماً وطنياً وقومياً يصب في إطار المقاومة والدفاع عن الأرض.
وللمخرج ذاته العديد من الأفلام التي أولى فيها أهمية خاصة للمكان مظهراً خصوصية البيئة كما في فيلم (شيء ما يحترق) الذي تناول فكرة الحنين إلى الأرض وأمل العودة لمن نزحوا من أهلنا في الجولان عام 1967. ونتابع في فيلمه (الشراع والعاصفة) المأخوذ عن راوية حنا مينة خصوصية البيئة الساحلية وكيف يعيش (أهل البحر) حيث مراكب الصيد وقصة ترصد تفاصيل حياة البطل ضمن حكاية شعبية يدور جزء من أحداثها في البحر. وقد برزت البيئة الساحلية في مجموعة من الأفلام منها (آه يا بحر) إخراج محمد شاهين المأخوذ عن رواية (الدقل) لحنا مينة، أما البيئة الريفية فتناولتها العديد من الأفلام مُظهرة دفئها ومسلطة الضوء على تفاصيلها المختلفة، ومن أهم المخرجين الذين تناولوها في أعمالهم المخرج عبد اللطيف عبد الحميد، فالمتتبع لمسيرة أفلامه يلحظ أهمية المكان والبيئة لديه منذ فيلم (ليالي ابن آوى) الذي بدت فيه عفوية وبساطة العلاقات بين الناس ومن ثم فيلم (رسائل شفهية) إضافة إلى أفلام أخرى له بما فيها تلك التي تناول فيها بيئات مختلفة، فقد حمل كل منها خصوصية البيئة الذي تدور فيها الأحداث.
كثيراً ما ارتبط موضوع المكان بحالة المقاومة والدفاع عن الوطن وضمن هذا السياق أُنجِزت أفلام تناولت ارتباط الجندي بأرضه وذوده عنها بشجاعة وسعيه الشهادة ليكون قرباناً يُقدم على مذبح الاستقلال والكرامة، ففي فيلم (دم النخل) رصد المخرج نجدة أنزور بسالة الجندي السوري في الدفاع عن تدمر والآثار فيها، كما تحدث الفيلم عن عالم الآثار خالد الأسعد الذي قتل على يد العصابات الإرهابية المسلحة وهو يدافع عن كنوز المدينة رافضاً المغادرة وتركها للسلب والنهب، كما استحضر العمل شخصية الملكة زنوبيا وكأن كل منهما يؤدي دور الحارس لمدينة تدمر الأثرية. ومن أفلام المخرج جود سعيد التي حضر فيها المكان بقوة فيلم (مطر حمص) حيث ينتقي المخرج لحظة مهمة مرت على المدينة خلال عام 2014 حين بقي في حمص القديمة عدد من المدنيين وينطلق في حكايته مؤكداً على التشبث بالحياة والإصرار على الاستمرار وسط الدمار والموت. ومن أفلام المخرج باسل الخطيب نذكر (دمشق حلب) الذي دارت أحداثه ضمن حافلة لنقل الركاب حيث أعتُبِر المكان هنا أحد الأبطال الرئيسيين وقد اختير الطريق التي تم المرور فيها بما يتلاءم وطبيعة الأحداث مع الإشارة إلى ألم المدينتين خلال الحرب.
قدم المخرج الراحل ريمون بطرس عدة أفلاماً كان محورها مدينته حماة كما هو حال فيلم (الطحالب)، كما احتفى شأنه شأنه العديد من المخرجين الآخرين بمدينة دمشق فقدم فيلم (حسيبة)، ومن الأفلام الأخرى التي احتفت بدمشق نذكر أيضاً فيلم (دمشق يا بسمة الحزن) إخراج ماهر كدو، وفيلم (حراس الصمت) للمخرج سيمر ذكرى والمأخوذ عن (الرواية المستحيلة ـ فسيفساء دمشقية) للكاتبة غادة السمان وتناول قضايا وأفكاراً من صميم البيئة الشامية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي من خلال قصة فتاة تعيش ضمن أسرتها الدمشقية إلا أن عادات وتقاليد المجتمع تقيدها وتحاول خنق موهبتها في حين تسعى بإصرار لإقناع المحيطين بها بإبداعها، كما قدم المخرج سمير ذكرى فيلم (علاقات عامة) الذي انطلق به من عوالم تُظهر عمق الحضارة والأصالة في سورية مسلطاً الضوء على آثار وأوابد شامخة وطبيعة رائعة.
أما فيلم (اللجاة) إخراج رياض شيا فيذهب بعيداً في عمق منطقة اللجاة ذات الأرض البازلتية والموجودة في الجنوب السوري، إنه مكان تضج حجارته السوداء بالحياة لدرجة تكاد تنطق بما تحمل من قصص وحكايات وتاريخ وحب وأشواق ونضال، كما تحمل عادات وتقاليد وطقوس لها خصوصيتها وتفردها، وقد انتصر المخرج هنا إلى خصوصية البيئة ساعياً للكشف عنها حتى تكاد العديد من المشاهد أن تكون أقرب لمشاهد تسجيلية تعكس طبيعة الحياة هناك. وتكتسب قصة الفيلم أهميتها وخصوصيتها من المكان الذي جرت فيه، فقط انعكست طبيعة الأرض والبيئة بما تحويه من إرث وتقاليد على الحكاية وطبيعة الشخصيات، فظهر ما يخبئه كل من صمت الحجر وسكون الطبيعة من غليان وقدرة على المعاقبة، لقد انتصر المخرج للطبيعة والبيئة روحاً وحجراً.
التاريخ: الثلاثاء5-4-2022
رقم العدد :1090