الملحق الثقافي: فاتن أحمد دعبول:
لا تكاد الذكريات عصية على النسيان حتى ولو طالت سنوات البعد والحنين، فكيف إذا احتلت تلك الذكريات أماكن هي الشريان الذي ينبض بأرجاء الروح فيحيلها إليه ليستمد منها أكسير الحياة كلّما شعر الإنسان بشح حياته من تلك اللحظات الأسيرة لديه في مكان ما، وزمن ما، وشعور يسكن بين الضلوع.
هي الفطرة الإنسانية التي تدفع بالإنسان أن يتلفت بقلبه وعاطفته إلى تلك الأماكن التي شكّلت طفولته، وملاعب صباه وشبابه، وسجلت بين حناياها ذكرى أصحاب ورفاق درب، ونبض أحاسيس، ترتعش لها الأضلع كلّما تدفقت إلى الوجود، لتعيد معها تلك المساحة الجغرافية التي نشأ وترعرع وعاش فيها بكلّ دفئها وحميميتها.
إن للمكان قدسيته وسحره يدفع بالإنسان للتعلق به، ولأن المبدع هو الأكثر تأثراً بما يدور حوله من أحداث ووقائع، نراه يختزن تلك التفاصيل الدقيقة ويحولها إلى نص شعري، أو منتج أدبي، فللأدباء والشعراء ذاكرة تصويرية وإحساس مختلف، فهم يحتفون بكلّ الأماكن التي تعني لهم في تفاصيلها الكثير من لحظات الشوق والحنين والذكريات الآسرة، فيحولونها إلى نصوص أدبية تعكس ارتباطهم بالمكان.
ترى ماذا يقول الأدباء في ذاكرة المكان، سؤال توجهنا به إلى من كان له المكان نبض حنين وبعث جديد.
الدكتور جهاد بكفلوني: مهوى الفؤاد
ويبدأ د. جهاد بكفلوني الحديث عن ذاكرة المكان بقول الصمة القشيري:
بروحي تلك الأرض ما أطيب الربى
وما أحسن المصطاف والمتربعا.
ويبين أن هذا البيت يشير إلى تعلق المرء بالمكان، وإن كان المقصود هنا الأرض التي فتح عينيه متنشقاً طيب ترابها:
بلاد بها عقّ الشباب تمائمي
وأول أرض مسّ جلدي ترابها.
كان الشاعر إذا ارتج عليه، قصد مكاناً تستريح إليه نفسه، كأن يكون روضاً متنوع الرياحين والأطياب، ينسى فيه همومه وأحزانه فيسلس له القول القياد:
يا لشوقي إلى محاسن قطر هبط الوحي فيه والإلهام.
وعندما قصد خليل مطران الإسكندرية للاستشفاء كتب فيها قصيدته الرائعة:
متفرد بصبابتي متفرد
بكآبتي متفرد بعنائي
شاك إلى البحر اضطراب خواطري
فيجيبني برياحه الهوجاء
ينتابها موج كموج مكارهي
ويفتّها كالسقم يوماً زائلاً
فرأيت في المرآة كيف مسائي
فالمكان ذو تأثير قوي على المبدع، ما في ذلك أدنى ريب، ولذلك قالت العرب: مهوى الفؤاد:
ومن مذهبي حبّ الديار لأهلها
وللناس فيما يعشقون مذاهب.
منير خلف: جذوره تشحن الذاكرة
ويرى الأديب منير خلف أن للمكان سراً لا يرى، لكنّه يشحن ذاكرة القلب بما لذ من فكر وطاب من معنى، وللمكان كذلك سحر يأخذ بأيدي القلوب ورياحين الوجدان.
للمكان جذور لا يمكن للشاعر التفلت من نسغها الكامل والاستغناء عنه، إذ لا أستطيع أن أرى انهمار غيث في دمشق أو الحسكة إلا وتحضر أمام كاميرا قلبي صورة الغيث في قريتي» شاغر بازار» التي شهدت مسقط أحلامي، لا يمكن رؤية قبّرات إلا وأتذكر قبرات» شاغر بازار» لا يمكن رؤية جبل إلا واستحضار ذكريات الطفولة على تلال جبل» شاغر بازار» القرية الواقعة بين عامودا والحسكة.
شاغر بازار قريتي التي حفظت ذكريات طفولتي وحفظت حبّها والتعلق بحبال سرتها الخضراء حتى نخاع الوله، ومازالت حاضرة في القلب تحثني على التذكر والبكاء حفاظاً على جمرة الإبداع وانطلاقا نحو الحياة، وحلاوة المكان» صديقتي» لا تتأتى إلا من خلال ساكنيه وأهله الطيبين، ولي في هذا الباب شعراً:
يحلو المكان بأهله وبناسه
يامن يراني عالقاً بلباسه
كلّ الأماكن أرضنا وسماؤنا
إن صح منا الحبّ في أنفاسه
فانوس غربتنا شموس من هوى
ترقى بأنفسنا إلى إحساسه
أولم يقل قيس بن الملوح في حبّ ديار ليلى:
أمر على الديار، ديار ليلى
أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبّ الديار شغفن قلبي
ولكن حبّ من سكن الديارا
وقبل أن أضع نقطة النهاية لابدّ أن ألفت إلى أنّ الأدباء والشعراء هكذا يرون المكان بكلّ ما يحمل من ذكريات تسكن الروح لتتفتح من جديد عند أول قطرة غيث، وكثيراً ما كان القدماء يتغنون بما أطلقوا عليه الزمن الجميل، في إشارة إلى الماضي وذكرياته التي ارتبطت بالمكان وبأهله من جهة، وبتفاصيل حميمية من جهة أخرى.
ولكن أليس في واقعنا الحالي ما يستحق أن نفسح له مكاناً في ذاكرتنا، ليتغنى به أبناؤنا في القادم من الأيام؟
نحن من نصنع الذكريات ونخلد الأمكنة، فلتكن سجلاتنا حافلة بما يمنحنا حياة جديدة، نبعث الحياة في الماضي، ونخلد ذكرى اليوم في جعبة الأيام، فهي زادنا سننهل منه يوماً، فليكن عطراً بالحبّ والأمل والإبداع.
التاريخ: الثلاثاء5-4-2022
رقم العدد :1090