الثورة – أديب مخزوم:
مرت منذ أيام الذكرى السنوية الثالثة لرحيل الفنان التشكيلي نذير نصر الله ( الأستاذ في كلية الفنون الجميلة في دمشق )، وفي هذه المناسبة نستعيد بعض ملامح تجربته الطويلة، في مجال إنتاج وعرض اللوحة الفنية الحروفية، والتشكيل النحتي الفراغي.
ولقد كشف في لوحاته خلال تجربته الفنية الطويلة عن غنى حركة الحروف العربية، وقدرتها على تجاوز الدلالات اللغوية المقروءة، والتواصل مع تطلعات الحداثة التشكيلية، وبذلك كان يتطلع دائماً إلى بناء لوحة تلامس جوهر الحضارة العربية، وتنقل انفعالاته الحرة، بعيداً عن مأثورات التقاليد، ولقد كان يجعل حركة الحروف الحرة تخترق شكل المربع أو المستطيل، ذاهباً إلى ترجمة انفعالاته الخاصة وتوجهه الحروفي الجمالي الخارج على النظام الهندسي.
ولقد وصل في بعض لوحاته إلى حدود استخدام عدة حركات حروفية وبطريقة تشبه التوقيع.
وحقق أسلوبية، حتى في أقصى حالات الاختصار والإيجاز، ووصل إلى درجة الإحساس بروح الحرف العربي، والجمع في نهاية المطاف بين العناصر والرموز والدلالات اللونية الذاتية في إيقاعاتها الهندسية والغنائية.
ولقد وصل إلى حدود إنجاز أنصاب نحتية ومحفورات، أظهرت المزيد من العفوية في تجسيد حركة الحروف العربية، بحيث تتحول الحركات الخطية في بعض لوحاته، إلى صياغات انفعالية، أشبه بالارتجال أو بالتواقيع، المتتابعة والمتداخلة كأنغام موسيقية، تمتد بين حركة الحروف وبعض الحركات اللونية المتناهية العفوية، والتي يتجاوز من خلالها الدلالات المقروءة، في خطوات البحث عن العمق الجمالي والتشكيلي والإيقاعي والذاتي.
وفي النهاية كان يشحن لوحاته بمزيد من العفوية والتلقائية والارتجالية، ولذلك فهو لم يكن يدخل في تشكيل النص الكتابي، في إطار التشكيل الحروفي البحت، وبمعنى آخر مهما كان يستغرق في رحلته وكتاباته الحروفية المتجهة في اكثر الاحيان نحو مصدر الخلق والروح، فإنه في النهاية كان يهتم كثيراً بالجوانب التعبيرية والذاتية والانفعالية، حتى حدود الاكتفاء بحركات خطية سريعة ومختصرة إلى أقصى حد أحياناً، ولهذا فهو لا يهدف الوصول إلى اللوحة الحروفية بجمالياتها الاتباعية، وإنما بالارتكاز على روح الحرف وإشاراته وحركاته المترسخة في الذاكرة والوجدان. هكذا مارس حريته المطلقة في البحث التشكيلي والتقني والجمالي، كأن يجعل إيقاعات الحروف محصورة في مساحات محددة أفقية أو شاقولية في وقت استطاع فيه أن يمارس حريته المطلقة في التشكيل والتلوين. وبذلك كان الاتجاه التعبيري الانفعالي الذاتي هو الأكثر حضوراً في فضاءات التشكيل، وهو حين لم يكن يهتم بالأسلوب التقليدي أو التسجيلي في كتاباته المباشرة على سطح اللوحة، فإنه كان يخدم هذه المفارقة الجمالية.
وإذا كانت المصادر الثقافية التشكيلية المعاصرة تتخطى اليوم لغات البلدان والشعوب، فهذا يساهم أو يجعل لوحاته قادرة على لفت انظار الاجانب، لأن لغة الفن الحديث تحمل هواجس تقنية ودلالات جمالية مشتركة، حتى وإن تضمنت اللوحة كتابات عربية، وبعبارة أخرى اللوحة الحديثة لاتحتاج إلى ترجمة.
وهذه الرؤى الحضارية تجعل اللوحة تحمل كل تداعيات الماضي المكتنز بصورة وأشكاله ومناخه، وتجعل اللوحة تبتعد في النهاية مسافات شاسعة عن المثالية الكلاسيكية والقواعد الحروفية الاتباعية.
ويمكن للمشاهد التماس جوهر التشكيل الحديث الخاص والمميز، بمجرد أن يلقي نظرة واحدة الى لوحاته.
ولقد اعتمد تقنيات التشكيل العفوي بالزيت والاكريليك والمائي والحبر الصيني وقلم الرصاص على القماش والخيش والكرتون والسطوح المختلفة، وذهب في لوحات أخرى، لإظهار العقلنة، والتشكيل الحروفي الهندسي، الذي يتوازى مع حركة الانفعالات، وذلك بالابتعاد عن الارتجال، وتقديم التكوينات الرصينة والمدروسة. حيث جعل حركة الحروف تتداخل مع الشكل الهندسي أو تبرز من خلاله، وبذلك كان يعمل في هذه المجموعة من اللوحات، لإيجاد المزيد من التوافق والموائمة، بين الاندفاعات العاطفية والرقابة العقلانية، رغم كل ما يبرزه من تحرر في حركة التشكيلات والخطوط، من تلك السلطة الهندسية، المعتمدة ضمن بعض عناصر اللوحة، وهو حين يعمل على تحويل الحروف إلى دلالات جمالية خالصة، تتكرر وتتنوع من لوحة إلى أخرى.