الملحق الثقافي: دلال إبراهيم:
لا نعلم من منهم يمارس غوايته فيزيد الآخر من سحره، حتى صارت بينهما هذه العلاقة الوشائجية القوية ؟ أهي الرواية أم السينما ؟ ولكن السؤال المشروع :هل أخلصت السينما للرواية في نقلها بأمانة دون تشويه إلى المشاهدين ؟ ومن كان له السبق في صناعة الشهرة للآخر ؟ وهل كانت تخرج الرواية عن الوفاق وتتمرد ؟ يعتبر الكثير من النقاد أن العلاقة بين الأدب والسينما تبقى إشكالية ويعتريها الكثير من العثرات، لأن ليس هناك قاعدة أو صيغة ثابتة يتم العمل بموجبها على معالجة نص مكتوب وتحويله إلى نص بصري.فالفيلم يتماهى مع عالم الكتب فالمفردة اللغوية للكاتب تحقق نفس الغرض الذي تحققه الصورة بالنسبة لمخرج الفيلم. هي حكاية العلاقة بين الكلمة والصورة، بين الورقة والشاشة، فالفيلم حكاية تروى بالصور مثلما الرواية تروى بالكلمة لكن هناك اختلافات تفرضها وسيلة التعبير نفسها فالتحرير أو «الكتابة» بالكاميرا يختلف عن التحرير أو «الكتابة» بالقلم والتعبير الميكانيكي الذي تفرضه آلة التصوير يختلف عن التعبير الأدبي، ولكن يظل هناك تقارب ما ورؤية ومحاولة طموحة لتقترب الرواية من السينما وأن تكون السينما أمينة على ما تقدّمه لها الرواية من نصوص.
أذكرعندما كنت في المرحلة الاعدادية وفي الصف التاسع بالتحديد كانت رواية الموسيقي الأعمى للكاتب الروسي فلاديمير كورولينكو أحد المقررات ضمن مادة اللغة العربية. ودأب التلفزيون السوري في ذلك الحين على عرض الفيلم المأخوذ عن تلك الرواية كلّ عام قبيل الامتحانات. أذكر صدمتي حينها وخيبة أملي لأنني لم أجد الفيلم متطابقاً مع ما تخيلته ورسمته وتصورته عن شخصيات الرواية وخاصة صورة (العم مكسيم ) الجندي العجوز الأبتر. وبقيت فترة طويلة لا أحبذ رؤية أفلام مقتبسة عن روايات قرأتها. ما اعتراني هو الإحساس بحالة الفصل التي تنشأ بين المشاهد والقاريء، وحصول حالة من الشرخ تتشكل على هيئة فجوة إدراكية بين المقروء والمرئي، حيث يسهب ويبحر الشخص المتلقي للرواية المقروءة بخياله بصور ومشاهد تدهش حينما ترجمت إلى صور مرئية كيف أنها لا تطابق خياله وذهنيته التسلسلية التي كوّنها من القراءة، ومن ثم يقود ذلك تقديريًّا إلى الانتقاص من القيمة الفعلية للرواية. فهل كان الكاتب الجدلي الكبير أمبرتو إيكو، محقاً عندما طالب برفع اسمه من على الفيلم الذي حمل عنوان روايته :»اسم الوردة» بعد فشله سينمائيا؟؟ إذ ورغم جودة الإخراج، فقد اختزل كاتب السيناريوالكثير من التفاصيل التي أسهب في عرضها إيكو. ويذكر أن ناشر الرواية طلب من إيكو حذف الـ100 صفحة الأولى كاملة بسبب إسهابها الشديد، لكنه ايكو رفض معللاً ذلك برغبته في اختبار ذكاء القارئ وقدرته على التحليل . وبالتالي بقيت الرواية متألقة في أسلوب عرضها وسخائها. وبقي الفيلم مختزلاً لا يحيط بكامل تفاصيل الرواية. ولكن هل يقود الاقتراب الشديد من النص الأدبي ضمان نجاح العمل الفني ؟ حينما اقتبس المخرج البريطاني لورنس اوليفيه نص مسرحية هاملت لشكسبير وأخرجها إلى السينما فشل الفيلم تماماً لالتزامه الشديد بالنص المسرحي ، في حين نجح الفيلم نفسه في السينما الروسية مع المخرج غريغوري كوزيمتز لالتزامه اللغة السينمائية واستلهامه روح النص فحسب .أي اعتماده على اللغة السينمائية التي تعتمد على مفردات مختلفة ، أبرزها المونتاج والصوت الذي يتضمن الكلمة والموسيقا والمؤثرات الصوتية .
ورغم أن أهم الأعمال السينمائية العالمية خرجت من رحم الأعمال الأدبية، فإن الآراء حول هذا الموضوع كثيرة ومتضاربة، خاصة بين ناشرين عرب وأجانب، في الاتفاق على ما اذا كانت الرواية هي التي أفضت إلى نجاح الفيلم السينمائي أم العكس. إلا أنهم اتفقوا على أن العلاقة بين السينما والأدب علاقة قديمة جداً ولا يمكن تجاهلها، وبالنسبة لغالبية الناشرين تعد الأفلام السينمائية دعامة أساسية لانتشار الكتاب وزيادة مبيعاته. والجدير ذكره أن السينما ساهمت من خلال هذه الأفلام في شهرة نجيب محفوظ المحلية، بمعنى أن كثيراً من المصريين لم يقرؤوا رواياته، إنما تعرفوا عليه من مشاهدة أفلامه السينمائية، فللسينما مساحة عريضة لدى الجمهور قلما يتوافر لنص أدبي. وهذا ما يؤكده نجيب محفوظ نفسه: «كنت دائماً أنظر للسينما باعتبارها وسيلة فعّالة في الوصول إلى قطاعات من الجماهير لم أكن سأصل إليها بالأدب». وبالتالي فقد استفاد محفوظ من السينما لأنها صنعت له شعبية كبيرة لدرجة أنها ساهمت في اهتمام القراء باقتناء كتبه. وحتما كان لها دور في شعبية محفوظ، لكن ذلك على مستوى فئات لا تهتم بالروايات والمطالعة. أما على مستوى المثقفين والنقاد والدارسين، فحتما الفضل الأول والأخير يعود لرواياته. على عكس المجتمعات الغربية التي لا زال يحظى الكتاب فيها بأهمية كبيرة لدى شعوبها، ولا زالت تزدحم دور النشر عشية الإعلان عن إصدار كتاب جديد جرى الترويج له مسبقاً.
بيد أن هناك أفلاماً غربية حصراً، أدى إجادة تحويل الرواية لفيلم، وطريقة تقديمه، إلى التوصل لما فيه المتعة والمتابعة والشهرة للرواية وكاتبها نفسه أكثر بكثير من لو تمّ الاحتفاظ بها في صيغتها فوق رفوف المكتبات أو في أدراج قرائها أو على بسطات الطرقات، لا تلقى من يقرؤها ويعرف كنوزها ويبحر فيها. ومن أهم هذه الأفلام التي تعدّ من أهم الأفلام في تاريخ السينما هو فيلم «ذهب مع الريح» عن الرواية التي تحمل الاسم نفسه للكاتبة مارجريت ميتشل، فنجاحها لم يكن نتيجة فحوى العمل الأدبي في حدّ ذاته وإنما الفيلم الذي حمل مضمون تلك القصة ومنح الرواية شهرة أكبر بكثير، وذلك من خلال إجادة المخرج في تقديم رؤيته لهذه الرواية بصريًّا وسينمائيّاً، أي برؤية الكاميرا لا رؤية الكلمة. وتعد رواية «ذهب مع الريح» الرواية الوحيدة التي كتبتها ميتشل والتي حققت وما زالت المبيعات بالملايين – بفضل الفيلم ـ وتحتل موقعاً متقدّماً في قائمة أشهر الروايات العالمية، هذا إضافة إلى أنه خلّد اسم مؤلفة الرواية.. فلولا السينما لكان مصير الرواية والمؤلفة مجهولاً، خاصة وإن العمل نفسه من الناحية الأدبية لا يدخل في عداد الأعمال الأدبية الشامخة. وهل كان سيكتب الخلود لشخصية مثل «هيثكليف» بطل رواية «مرتفعات وزرنج» لولا أنها تحولت للسينما، وها هي «أميلي برونتي مؤلفة الرواية تلحق بزميلتها «ميتشل» إلى «تاريخ الخالدين».. وكان هذا لن يتحقق إلا بفضل السينما التي تعيد من الحين إلى الآخر إخراج هذه الرواية. حتى وليم شكسبير نفسه لم يكن يحلم بأن شخصيات أعماله مثل «هاملت» «لير» «ماكبث»، عطيل»، «يوليوس قيصر»، ستكون بمثل هذا الخلود والانتشار لو لم تتناولها السينما عشرات المرات.. حتى مسرحية «روميو وجوليت» التي كتبها شكسبير في منتصف حياته الأدبية كانت السينما من أهم الأسباب وراء تخليدها.
فيما فيلم «زوربا» رائعة كازانزاكي اليوناني الشهير قدّمها بأمانة ودقة بالغتين المخرج مايكل كاكويانس غير مبتعد أبداً عن رؤية الكاتب، الكاتب الذي جعل من ممثل الفيلم أنطوني كوين غلافاً لروايته، الممثل الذي أبدع في تصوير شخصية الرواية في الفيلم بأداء عالي البراعة والاحترافية، فاستحق أن تكون صورته على غلاف الرواية ذاتها. وكذلك الأمر في فيلم (طعام صلاة، حب) التي أدت الدور فيه جوليا روبرتس والتي كانت سببًا كبيرًا في إعادة قراءة هذه الرواية لمقارنتها مع الفيلم ومعرفة التفاصيل أكثر من قبل عدد كبير من الناس عبر العالم. وفي كتابه 🙁 النص من المكتوب إلى المرئي ) يرى مؤلفه عشم الشيمي أن الروايات الشهيرة ومؤلفي هذه الروايات لم يشتهروا إلا من خلال تحويل رواياتهم إلى أفلام سينمائية، وإلا كانت ستظل تلك الروايات مقتصرة على دائرة ضيقة من المتداولين.
هذه العلاقة التكاملية والإشكالية بين الفنيين تراجعت حالياً ولا سيما على الصعيد العربي، ووفق ما تراه الكاتبة الروائية هناء عطية -صاحبة سيناريو فلم «يوم للستات» الذي شارك في عدد من المهرجانات وحاز جائزة السينما الإفريقية بإيطاليا- تقول: إن «90 في المئة من أفلام السينما الآن مسروقة من أفلام أميركية، ولا يوجد اجتهاد أو قراءة لدى كتاب السيناريو، فالسينما الآن استهلاكية ولا اجتهاد فيها». وتضيف: «أن الجزء المتبقي من كتاب السيناريو يجتهدون ويقرؤون الأعمال الأدبية، «لكن اجتهادهم في الغالب يكون ضد الضمير والأعراف الإنسانية»، وهؤلاء غالبيتهم يسطون على العمل الأدبي، وبدلاً من أن يقول هذا عَمَلُ مَنْ، أو نقلاً عن رواية أو قصة مَنْ، فإنه ينسب الفكرة والموضوع لنفسه، وهؤلاء ليسوا نسبة قليلة، فالنسبة القليلة هي التي تقوم بتأليف السيناريو من دون سرقة لا من أفلام أجنبية ولا من أعمال روائية لكتاب غير معروفين».
أن السينما لم تعد في السنوات الأخيرة تعتمد على الروايات المنجزة أصلا، وأصبح كتاب السيناريو، ينجزون قصصهم بأنفسهم من دون اللجوء إلى كاتب روائي.
أيضا تحول عدد من الكتاب الروائيين إلى السيناريو هاجرين الرواية، لأن السيناريو يمكن أن يكون مهنة ذات عائد مادي، يساعد على الحياة.
التاريخ:الثلاثاء24-5-2022
رقم العدد :1096