الملحق الثقافي:
“ ستموت في العشرين” .. نبوءة صدم بها شيخ الدراويش “سكينة” التي جاءت بمولودها الجديد لمباركته، فما كان منه إلا أن قذفها في سجن نفسي بأسوار عالية من الجهل والخرافة حين يسقط أحد الدراويش عند وصوله بالعد إلى الرقم عشرين، عبر حكاية من خصوصيتها في الطرح والمعالجة السينمائية الكثير من المفردات الفنية والبصرية المعبرة والمحملة برسائل وشارات اجتماعية وإنسانية تعكس خصوصية البيئة التي تطرح من خلالها تلك الحكاية..
“ستموت في العشرين”.. فيلم سينمائي من السودان بتوقيع المخرج أمجد أبو العلا قدّمه بيت السينما في عرض خاص في سينما الكندي، ويلقي الضوء على نتاج سينمائي يرتقي بمخيلته المغرقة بتفاصيلها الخاصة ليكون جديراً بجوائز وضعته على لائحة الأعمال الكبيرة التي كسرت طوقها نحو عالمية توجت بجائزة في مهرجان فينيسيا وهو من انتاج عام 2019.
بعد تلك النبوءة الافتتاحية يغادر الأب باحثاً عن عمل ليترك الأم وابنها “ مزمل” لقدرهما في مواجهة تلك الجدران التي نسجت خيوطها من عباءة الجهل والخرافات، التي تلاحق البطل وأمه، بل تمتد لتأخذ مساحة واسعة في بيئتها التي تعاني من مشكلات كثيرة على مستوى الحياة في محيط فقير وضيق، ليعيش هذا الثنائي نكبتهما المؤجلة والقادمة، بإيمان غذاه الجهل، فيعدان الأيام التي تنوء بحملهما الاجتماعي والإنساني، ليتحول البطل إلى فرد قانع بل خانع في مواجهة مصيره المحتوم الذي يمضي بحياته منتظراً نهاية تجعل منه “قوة معطلة” عن الحياة والحبّ، بل تذهب به إلى نوع من العزلة القسرية التي فرضها على نفسه وساعدت أمه بذلك، وهي مثله أسيرة الخرافة حتى انها تخيط الكفن بيدها بانتظار اليوم المحتوم في مشهد موجع..
يلتقي مزمل “بسليمان” وهو شخص متمرد، ومتنور يعيش قناعته الخاصة ويشرب الخمر ويعشق السينما وقد زار الكثير من البلدان لكنّه لا يخلو من عجز جعله أسير ذاته وبعض مفردات حياته التي لا يشاركها الآخرين، ليجد في “ المزمل” نافذة يستعيد من خلالها بعضاً من روحه المتمردة فيسعى إلى إخراج الشاب الصغير من حياته المغلقة طالباً منه الخروج نحو عالم آخر وارتكاب الخطيئة لكسر تلك النبوءة لكنّه يفشل، وينتهي بموت أشبه بالانتحار..؟!
وفي الموعد المحدد والمنتظر يذهب المزمل إلى بيت سليمان ويقرر ارتكاب الخطيئة مع حبيبة سليمان قبل موته لعله يكتشف الحياة، كما لو أنه في فعله ذاك يتصادى مع الخطيئة الأولى للبشرية التي كانت مفتاح المعرفة كما يرى بعض المفكرين، ليقع ارضاً بعد فعله ذلك حيث يظن المتفرج أن قدره جاء، لكن مع نور الصباح ينهض على إيقاع جديد بروح مختلفة، ويخرج راكضاً من القرية وربما من جدران أسره..
الفيلم يرصد صراع الحياة والموت، صراع الجهل والمعرفة، العلم والخرافة، ويكشف الغطاء عن الأثر بالغ الضررعلى الفرد والمجتمع من هيمنة الجهل والخرافة على البيئة التي تدور فيها الحكاية الغنية بالدلالات.
وتأخذنا الرؤية المشهدية البصرية، وعين الكاميرا الحساسة والمرهفة، في تنقل شديد البلاغة بين الظلمة والضوء، بين العتمة والنور، مستخدماً الكثير من مفردات البيئة نفسها، من أزياء وتشكيلات معمارية بسيطة جداً يسترق فيها الضوء من كوى صغيرة لإنارة زاوية أو وجه يعكس الحالة النفسية لشخصياته كما لو أنه يكتب قصيدة شعرية بعين العدسة في كثير من المشاهد داخل تلك البيوت والمساحات الضيقة أو في الأمكنة المفتوحة التي تتنقل فيها العدسة ملاحقة الأحداث والشخصيات..
الفيلم فاز بجائزة “ أسد المستقبل” في الدورة السادسة والسبعين لمهرجان البندقية عن أفضل عمل أول. ونال الجائزة الذهبية لمهرجان الجونة الثالث.. وهو من إنتاج عام 2019 للمخرج الشاب أمجد أبو العلا.. والجدير ذكره أن الفيلم هو بمثابة ولادة جديدة للسينما السودانية بعد توقف دام أكثر من عشرين عاماً.
التاريخ:الثلاثاء24-5-2022
رقم العدد :1096