الملحق الثقافي:
الحدث المهم والكبير ثقافياً خلال إقامة معرض الكتاب في أبو ظبي ما قاله ادونيس وقد تناقلته وسائل الإعلام والمواقع المعنية ..إذ تحدث عن الشعر واللغة العربية قائلاً:
( الموضوع ليس سهلاً، فالكلام عن الشعر كالكلام عن الحبّ نعيشه لكن لا نعرف كيف نحلله، لذا إذا أردنا الإجابة على سؤال راهن الشعر العربي وواقع القصيدة العربية والتحديات التي تواجهها، فلا بدّ أن نقول :إن هناك نظرتين إلى الشعر والنصوص الراهنة في العالم كلّه، نظرة ترى الشعر بوصفه إعادة إنتاج لما هو قائم، أي بوصفه جزءاً من الثقافة الراهنة أو السائدة، وهذا يجعل منه جزءاً عضوياً من الثقافة السائدة، وهو ما تبشر به الاتجاهات المحافظة أو التقليدية، والمستوى الثاني من النظر يؤمن بأن علاقة الكلمة بالأشياء هي علاقة تغييرية وليست علاقة وصفية أو فردية.
ثمَّ يقول:
شخصياً أميل إلى النظرة الثانية مع احترامي للنظرة الأولى، لكن ما هو سائد في المؤسسات العامة وفي الذوق العام لا يزال ينتمي إلى النظرة الأولى، وهي النظرة التي ترى أن الشعر جزء من الثقافة يجب أن يقول ويعالج مشكلات المجتمع.. إلى آخر هذه الأطروحة التي تعرفونها، إذا أردنا أن نصل إلى نتائج سريعة فإن الأمر يحتاج إلى مناقشة طويلة.
ثمَّ يقول:
إن جيلنا الذي بدأ في خمسينات القرن الماضي أي منذ سبعين سنة، إذا حصرنا راهنه الشعري في هذه السبعين سنة يمكن أن نقول رأياً، أعتقد أنه إذا نظرنا بموضوعية إليه الآن سنرى أنه صمد مما قدّمه بعض الأفكار، بعض القصائد، وبعض الشعراء، استطاعت أن تتخطى الراهن إلى المستقبل، لكننا كجيل فشلنا في أشياء كثيرة ولم نستطع أن نحقق الاختراق الذي ينبغي في الشعر الذي يطمح إلى إعطاء صورة جديدة للعالم، أي إلى أن يغير العلاقة بين الكلمة والكلمة، والعلاقة بين الكلمة والشيء، والعلاقة بين الكلمة والقارئ، أن نخلق لغة شعرية جديدة، أن نخلق قارئاً جديداً.
ثمَّ يقول:
أعتقد إذا قارنا جيلنا نحن من عام 1950 إلى 2022 أرى أن الجيل الراهن اليوم من الشباب هو أفضل منا بكثير، استفاد منا لكنه أكثر ميلاً إلى تغيير الأشياء، أكثر ميلاً إلى خلق علاقات جديدة بين الإنسان والعالم وبين الشيء والكلمة، وأميل أيضاً إلى القول :إن الصوت الأساسي بالنسبة إليّ في الكتابة الشعرية الحالية يتمثل في صوت المرأة؛ المرأة اليوم تقود الحساسية الشعرية الجديدة، لأنها بدأت تميز جسدها عن رأسها، بدأت تشعر بجسدها وحاجاته وأعماقه وفضاءاته أكثر مما تشعر بوضعها الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي أو حتى الديني التابع لثقافتها أي لرأسها، وإذا صح الفصل بهذا الموضوع بين الرأس والجسد، فالمرأة تقود هذا الفصل، وهي بذلك تحقق اختراقاً أساسياً لم يستطع الشعراء أن يخترقوه.
ثمَّ يقول:
وأنا أقرأ الآن نصوصاً لشاعرات من كلّ البلدان العربية، وأعترف أن هذا الجيل النسائي هو أهم بكثير من جيلنا نحن، طبعاً هناك نساء وأصوات لم يتح لهن حتى الآن أن ينشرن شعرهن، لكن سيأتي يوم وينشر هذا الشعر. هذا باختصار عما هو راهن، وأنا أراهن على هذا الراهن، إنما لي ملاحظة هي أن الشعر يحتاج إلى ثقافة وفضاء شخصي وعميق وحر، ولا أحد يستطيع أن يعطي الحرية لأي إنسان آخر، الإنسان هو وحده القادر على أن يعيش حريته، وبقدر ما يعيش حريته يقدر على تقديم إنتاج جيد، والأهم من هذا كله أنه لا أحد منا نحن، كلنا عندنا أخوة وأخوات، من نفس الأب والأم، ونعيش في بيت واحد، ومع ذلك لا أحد منهم يحلم الأحلام ذاتها التي يحلم بها الآخر، لكلّ جسد حياته الخاصة ولكلّ جسد عالمه الخاص، ولكلّ جسد فضاؤه الخاص، لكن على مستوى الثقافة كلنا نشترك في ثقافة واحدة وقيم واحدة، والشعر لا يجيء من هذا المشترك، وإنما يجيء من فضاء الجسد المفرد، ليس هناك جسد يشبه جسدا آخر، وهنا يكمن مكان الشعر، وهذا ما يغير الحياة الثقافية، ويغير حياة الإنسان ويبتكر لغة جديدة.
ثمَّ يقول:
إذا مات الحبّ يموت الشعر، الشعر هو الطاقة الأولى الكيانية التي يستطيع الإنسان أن يعبّر بها عما في أعماقه، لكن طبعا هناك عقبات تحول دون هذه القدرة على التعبير، وهذه العقبات تأتي من الثقافة. لا خوف على الشعر مادام الحب موجودا ومادام الموت موجوداً، فالشعر حي كالإنسان الحي، لكن ليس هناك شعر في الفضاء، الشعر هو الشاعر، وبقدر ما يكون هذا الشاعر خلاقا وقادرا أن يخترق الحواجز والحجب والعقبات يستطيع أن يبدع عالما جديداً. وما أقوله هنا عن الشعر العربي ينطبق في رأيي على الشعر في العالم كلّه، وإذا كان هناك فرق بين وضعنا الشعري والوضع الشعري في فرنسا مثلاً، فبحكم معرفتي بالشعر الفرنسي أكثر من غيره أستطيع أن أؤكد أن الفرق في الدرجة وليس في النوع، الإنسان ككينونة في أزمة كبرى في العالم كله، إذن لا يمكن إلا أن يكون شعره في أزمة، وهذه الأزمة أزمة حيوية وليست أزمة انقراض.
ثمَّ يقول:
إن مستقبل الشعر العربي ومستقبلنا كعرب مرتبطان، لأنه إذا مات الشعر عند العرب مات العرب أنفسهم. ماذا سيكون مستقبل العلاقة مع اللغة العربية الأم؟ كون وجود ظاهرة عند العرب ليس لها مثال في العالم؛ تتمثل في أنه ليس هناك شاعر في العالم يخطئ بلغته الأم إلا العرب، هذه كارثة يجب أن ننتبه إليها، وفي ضوء ذلك ماذا سيكون مستقبل اللغة العربية في المؤسسات التربوية والجامعية، أنا لدي خبرة جامعية وأعرف أشخاصاً حصلوا على شهادة الليسانس من الجامعة وجاهزون نسبيا ليعملوا في المدارس، إذا أعطيناهم قصيدة لا يعرفون كيف يقرؤونها قراءة صحيحة. ماذا سيكون مستقبل اللغة العربية؟ هذا عدا القول :إن العربي صار في جميع المجالات يفتخر ويزدهي أنه يحكي باللغة الانجليزية أو الفرنسية، مع أنه متاح له أن يحكي باللغة العربية، لكنّه يفضل الحكي بلغة أخرى تباهياً، ومن ثمة يخشى الشاعر على مستقبل هذه اللغة العظيمة التي لا مثيل لها.
ثمَّ يقول:
ماذا ستكون علاقتنا بموروثنا العظيم؟ الشعر العربي بخبرتي المحدودة؛ يعني إذا ذكرت( امرؤ القيس) وطرفة بن العبد وذا الرمة وأبا نواس وأبا تمام والمتنبي والمعري، لن تجد في العالم كله شعراء أعظم منهم أبدا، لكن هؤلاء الشعراء لا يقرؤون في لغتهم، من منا كعرب قرأ المعري مثلا قراءة كاملة. أمس تحدثت مع شاعر فرنسي، وقلت له تعتبرون أو تعدون دانتي من مؤسسي الثقافة الأوروبية والنزعة الإنسانية الأوروبية، إذن لماذا لا تتحدثون عن عنصرية دانتي وعن لا إنسانيته، أنا لا أستطيع أن أؤكد إذا ما كان دانتي قد تأثر بالمعري في فكرة الجحيم، على افتراض أنه لم يتأثر، المهم أنه استخدم وسيلة استخدمها قبله المعري، إذا قارنا بين المعري ودانتي، سنرى أن المعري أعظم إنسانية وأوسع أفقاً وأعمق رؤية للإنسان والعالم من دانتي مؤسس الحضارة والثقافة الأوروبية. من يعرف ذلك من العرب، لا أحد.
ثمَّ يقول:
آسف أن أقول هذا، المعري لا يدرس حتى في الجامعات إلا كنموذج بسيط، مثله مثل أبي نواس، في حين أن بودلير كلّ عام أو عامين هناك إعادة طبع لأعماله وإعادة قراءة، من يقرأ اليوم أبا نواس بين العرب، خارج كونه شاعر مجون وخمرة، والمجون والخمرة من أسوأ ما عنده، أبو نواس شاعر عظيم خلق للمرة الأولى لغة المدينة، وخلق تلك العلاقة العظيمة المأساوية بين ما هو زائل وما هو أبدي، وقال في قلب الحضارة الإسلامية لكم دينكم ولي دين ما لي وللناس كم يلحونني سفها.. ديني لنفسي ودين الناس للناس.. إذاً لا بدّ أن نعيد قراءة موروثنا الشعري بعين المستقبل، يعني بعين الانقلابات المعرفية والجمالية الكبرى في الوقت الراهن، ونحن للأسف لا نفعل ذلك.
ثمَّ يقول:
نحن عندنا أعظم القصور وأعظم السيارات وأعظم المنتجات الاستهلاكية في العالم، لكن ليست لدينا مدرسة واحدة نموذجية أو جامعة واحدة نموذجية، ولا مستشفى واحد نموذجي، كل المسؤولين وتابعيهم حين يمرضون يذهبون للخارج للتداوي، يعني نحن نسينا التقدم وابتلعنا النمو، النمو ينقلنا من حالة إلى حالة بشكّل أفقي لكن التقدم يعمق رؤيتنا ونظرتنا للعالم ويجعلنا بين المبدعين الذين يشاركون في بناء العالم وليس بين أعظم المستهلكين. وإذا كان العربي لا يستطيع أن يكون حراً في الأشياء التي تقرر مصيره وتقرر كينونته، فماذا يستطيع أن يفعل؟.
وختم أدونيس:
إن الشعر العربي اليوم بكلّ مشاكله، أعني الشعراء الحقيقيين، لا يقلّ شعرهم أهمية وجمالاً عن أي شاعر فرنسي على الإطلاق، هذا أمر أعرفه وأستطيع أن أدافع عنه، لكن كما ذكرت هناك مشكلات كثيرة تواجه الشاعر العربي، لا يواجهها الشاعر الفرنسي.).
رقم العدد 1097
التاريخ: 31/5/2022