الملحق الثقافي – غسان كامل ونوس:
يخطئ الكائن، الذي خُلق حرّاً، ضمن شروط العيش وظروفه، في حيّزه الذي كان ويكون؛ حين يسكت راضياً عن أن يوضع في موقع أقلّ من إمكانيّته، ومؤهّلاته؛ إلّا إذا كان مضطرّاً، وخلال وقت محدود؛ ويخطئ أكثر، حين يقبل على نفسه وكرامته، أن تكون متطلّبات الكرسيّ، الذي يجلس عليه، أعلى من مواصفاته الشخصيّة والفكريّة؛ ولا سيّما حين يسعى إلى مثل هذا المكان، وهو يعرف هذا؛ معتمداً على أسباب وعوامل أخرى، يعرف، أيضاً، أنّها لا تأتي في مصلحة العمل والصالح العام.
صحيح أنّ هذا لا يتعلّق بالكائن وحده، ولا يتوقّف عليه؛ فهناك من يعمل على هذا بجهل؛ وهذه مشكلة، وآخرون يتبنّون مثل هذا المنحى عن قصد؛ وهذه جريرة؛ ولكنّ هذا في الحالين لا يجعل الأمر مسوّغاً بأيّ درجة؛ فاستمراء الخطأ، أو تكراره، أو هيمنته، لا يجعله صواباً، ولا يقاس عليه، ولا يبنى على أساسه. والقضيّة المهمّة، أيضاً، المتّصلة بذلك، هي أنّ المكان وحده، لا يمكن أن يجعل للكائن الحالّ فيه، مكانة مرموقة، مهما طال المقام، وسيبقى فضفاضاً عليه، لا يكاد يظهر منه رأسه، فيعمد إلى مطّ عنقه، أو رفع نبرته، من دون داع وجيه، سوى أن يراه الناس، أو يشعروا بوجوده؛ وخاصّة إذا ما ارتفعت قدماه عن الأرض الثابتة، التي يجهد للوصول إليها، والاستقرار فوقها؛ وهي ورطة حقيقيّة له، تترسّخ حين يكون الكرسيّ دوّاراً، أو منزلقاً؛ ربّما لا يتنبّه إليها الغائص فيه، والضائع بين مدياته الفسيحة، وروائحه المخدّرة، وآيات الاهتمام والتزيين والتبجيل؛ وصولاً إلى التقديس، التي تنهال عليه، من قبل المرافقين والمرؤوسين والمحتاجين، وحتّى ممّن ليست لهم علاقة؛ لكنّهم معنيّون بالترويج المجّاني، والتعويم والتهويم، والبحث عن صلات وروابط وعلاقات، وإن كانت كحبال العرمط، مع الذين يظهرون في المشهد، وتُعهد إليهم مهمّات وأدوات ومصائر…
وقليلون من كانوا أقلّ من مستوى ما يحمّلون من مسؤوليّة منظورة، ثمّ يعملون على تطوير مؤهّلاتهم، وتحسين مواصفاتهم، بطرق محمودة، ومقدّرة، ومشروعة؛ وكثيرون من يسارعون إلى محصّلات وشهادات؛ بترشيحات ودورات واختبارات خلّبيّة، يسهل القبض عليها؛ بل يمكن أن تُمنح لهم، وهم على رؤوس أعمالهم، من دون تعب أو تحضير أو مناقشة! والمصيبة هنا، أنّ هذه الوقائع، لا تقف عند حدود المكتسبات المادّيّة الفاخرة والمعنويّة الغامرة؛ بل تتعدّى كلّ هذا إلى ألقاب علميّة ومهنيّة، ترافق محتلّها بعد أن يَخرج، أو يُخرج من المهمّة، أو المهمّات، التي يمكن أن تعهد إليه تكريماً وتقديراً، وسيستخدمها في جهات ومواقع ومجالات، لا يُنظر فيها كثيراً إلى حقيقتها وفعاليّتها وجدارتها، وتُستكمل الحلقة والحلقات المزيّفة، وتضيق الأحياز، وتحاصر الأنفاس، وتفسد الأجواء، ويحلّ وباء، يصيب كلّ الأحياء، ولا تنفع معه أيّ مراهم سطحيّة، ومعالجات موضعيّة، ووعود برّاقة، ونصائح متأخّرة. وتشتدّ خطورة هذا على الأجيال القادمة؛ ولا سيّما الأطفال واليافعين، الذين قد يجدون في أمثال هؤلاء المثال والقدوة والرمز؛ بما يهيمنون، وما يتظاهرون به، وما يمارسونه على الملأ، وما يحكمون به على الآخرين، وقد يصبحون مصدر التقويم والتنصيب والمنح، وهم المرجعيّة في مجالاتهم، وربّما في أيّ مجالات أخرى، وقد يصبحون ثقاة وموثّقين، ووجهاء ومفتين، ومؤرّخين في الحيّز المعنيّ للمرحلة وحوادثها ومتنفّذيها، وأصحاب الفعل والجاه فيها.
وفي الوقت ذاته، يُهمَل أصحاب الكفاءات الحقيقيّة، والإمكانيّات الفعليّة، حتّى إن تقدّموا بما حصلوا عليه بجدّ وجدّيّة وتضحية ومعاناة، أو تعبوا، أو ملّوا من المحاولات الخائبة؛ فانعزلوا، أو ابتعدوا عن المشهد والذكر والتأثير والتمثّل، وغابوا عن الحضور الفاعل، والظهور الناجز، حين امتنعوا عن المشاركة في موائد اللئام، وناموا على الطوى المعديّ والنفسيّ، هم ومن في دارتهم ودائرتهم، وفي حيّزهم، ومن يقتنعون مثلهم ومعهم بأنّ الحقّ والمبادئ والقيم، أقوى ممّا لدى الأقوياء على الحقّ والاستقامة والخلق القويم.
وإذا كان مثل هذه الحالات وارداً وممكناً، في مختلف المجالات المادّيّة والسلطويّة، فإنّ ما يشكّل عورة فاضحة، وخروجاً عن المنطق، وانحداراً في درك الظلام، وسقوطاً في بركة آسنة، أن تمارس في المجال الثقافيّ؛ حيث تكتب الرسائل والمخطوطات لآخرين، وتنشر كتابات لجاهلين، وتقرّظ نصوص هابطة، ويحتفى بأصوات ناشزة، ويرحّب بخطا متعثّرة، وتفتح المنافذ والمنابر والأجواء والصروح لقامات محنيّة، وظلال مصطنعة، وإنجازات مدّعاة، وأحجام منفوخة… ويتلقّى ما يرمون به عديدون، ومختلفون، وأصحاب مصلحة، وعليمون، وفاهمون. وقد يحوذ ما يتمثّلونه على اهتمام إلى وقت ومدى، ويسودون، ثمّ يتساقطون في معابر الأصالة، واختبار البقاء للأصلح، ومقياس الخلود الرصين.
نأمل هذا، ونتمنّاه؛ فهل يكفي؟!
أليست علينا مسؤوليّة شخصيّة وتاريخيّة في التنصّل من مواجهة سريان ما يحدث؛ ونحن نراه، ونتابعه، ونسايره، ونحابيه؛ وقد نتحدّث في أمره سرّاً، ونقرّ بوجوده، وخطره على الذائقة والوعي والفكر، والوسط والبيئة والمقام، وأهمّيّة تعريته وتجريمه قبل استشرائه واستفحاله؟!
أليست لنا مسؤوليّة في مقاومة تسخيف القيّم، وتشويه الجميل، وتدجين الأصيل، وإتعاب الجادّ، وتضييع الموهوب، وتهشيم الرصين؟!
لا.. ليس كلّ محرِّر ضليعاً، ولا كلّ صاحب منبر مرجعاً، ولا كلّ صاحب قول دليلاً، ولا كلّ نافذ ملهَماً، ولا كلّ مسؤول صالحاً للحكم والتحكيم، ولا كلّ صاحب لقب جديراً، ولا كلّ معوَّم حصيفاً وبليغاً ومنظّراً، ولا كلّ صاحب نبرة عالية موهوباً، ولا كلّ كاتب مبشَّراً بالإبداع، ولا كلّ كتاب خير جليس!
ولسنا جميعاً خير مبدعين، ولا خير متلقّين!
وحتّى يُميَّز الخيط الأبيض من الخيط الأسود، علينا أن نسعى، ونجهد، ونجرؤ، ونُقْدِم، ونضحّي… ولات ساعة مندم!.
رقم العدد 1097
التاريخ: 31/5/2022